لم يكن جوزف، اللبناني المسيحي كما يدل اليه اسمه، التقى بمسلم قبل أن ينهي مرحلة تعليمه الثانوي في منطقة شمالي بيروت ويتوجه إلى الجامعة الأميركية الواقعة في أحد أكثر الأحياء اختلاطاً وتنوعاً. حتى خياره الأكاديمي آنذاك، بدا غريباً بعض الشيء ولم يلق استحساناً كبيراً بين زملاء صفه الذين فضلوا جامعات يغلب عليها لون مناطقي وطائفي واحد. التقى جوزف أول مسلم وهو يناهز الثامنة عشرة، ولم يكن يعرف عن المسلمين إلا أنهم هؤلاء القاطنون في جزء لم يطأه من المدينة. فرح أيضاً كانت المسلمة السنية الوحيدة في صفها حين دخلت الجامعة اليسوعية وبات عليها أن تقطع يومياً المسافة «المعنوية» الهائلة بين راس بيروت حيث تسكن والأشرفية حيث تدرس. ولم تنتبه فرح لاختلافها عن زملائها قبل أن يحين شهر رمضان وتصومه من دون زملائها ولم يشاركها احد منهم إفطارها. وكما استقبل جوزف في الأميركية بنظرة تتهمه ب «الانعزالية» بسبب منطقته وطائفته، وهي نظرة تمكن من كسرها مع الوقت. واجهت فرح عبارات تودد من نوع «أنت مثلنا تماماً» أو «لا يبدو عليك إنك مسلمة». هي في المقابل لم تزعجها تلك المحاولات التي رأت فيها نوعاً من مد جسور معها وبادلتها بأفضل منها، غير منتبهة إلى نوع من التنميط الذي خضعت له من غير أن تدري ومن غير أن يقصد به سوء النية بالضرورة. فالجدار الذي بني بين الطوائف لسنوات لا يسهل اختراقه بالسهولة المرجوة كما أن رد فعل الأول هو الانطلاق من شعور أن «من مثلنا فليأت عندنا». لكن فرح فجأة انتبهت إلى أنها سبق واختلطت بمسيحيين في مدرستها وراحت تحصيهم وتخطئ أحياناً في بعضهم. فهل كان فلان مسيحياً أم درزياً؟ لم تعد تتذكر جيداً... هؤلاء لا يشبهون كثيراً الذين التقتهم في جامعتها ونشأوا في بيئة متجانسة طائفياً. كانوا مثلها، أي بمعنى ما «لا يبدو عليهم إنهم مسيحيون». دخل كل من جوزف وفرح إلى الجامعة في النصف الثاني من التسعينات وكانت الحرب وإن مضى عليها وقت، لا تزال حاضرة. الوضع اليوم مختلف إلى حد بعيد. فبات شائعاً مثلاً في الجامعة اليسوعية رؤية طالبات محجبات، ولم يعد الآتي من منطقة مسيحية مضطراً لتبرير عدم انعزاله في الأميركية. وهو واقع بات ينسحب أيضاً على الجامعة الوطنية، وإن بدرجة أقل. فخلال الحرب أفتتحت الجامعة اللبنانية الرسمية فروعاً لها ما جعل أبناء المناطق الراغبين في الدراسة فيها مكتفين بمناطقهم وبيئاتهم وقللت فرص اختلاطهم. ولكن إذا كان الوضع تغير فهذا التغيير بقي نسبياً. فصحيح أنه شاعت شعارات «لا للطائفية» بين الشباب ونشأت مناطق اختلاط غير قليلة في مواقع العمل والجامعات وأماكن الترفيه وشوارع السهر، إلا أن جدراناً جديدة ارتفعت بين الطوائف والمجموعات اللبنانية على خلفيات سياسية في شكل خاص اتخذت منحى طائفياً. ففي بلد يضم 18 طائفة رسمية، لا قانون مدنياً واحداً ينظم علاقة ابناء تلك الطوائف ببعضهم بعضاً. فالوظائف الرسمية محكومة بكوتا رصدت لكل فئة، من دون ان يكون الحجم أو العدد هو معيار الحصة من قالب الجبنة. وتنطبق تلك المحاصصة في القطاع الرسمي بدءاً من أصغر موظف في دائرة نائية وصولاً إلى رئيس الجمهورية الذي يجب أن يكون مسيحياً مارونياً، مروراً حتى بمؤسسات كالجيش. أما الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وإرث فخاضعة للمحاكم الروحية المقسمة بدورها بحسب المذاهب. وعندما اقترح رئيس مجلس النواب (الشيعي بحسب الميثاق) منذ فترة قريبة انشاء لجنة لإلغاء الطائفية السياسية، وهو ما اثار زوبعة من الاحتجاجات، إنما جاء اقتراحه اقرب إلى تذكير الأقليات بأنها أقليات والأحرى بها أن تحافظ على مكتسباتها بما تيسر. وهو ما استجاب له المسيحيون الذين كانوا أول المعترضين على الاقتراح. فرفعوا الصوت عالياً وأعادوا احتساب حصصهم متناسين أن مشروعاً كهذا، لو لم ينتج من محرك سياسي أكثري، لكان حماية لكل حريص على مواطنيته وحقوقه وواجباته ضمن دولة القانون. وإذا كانت محاولات إلغاء الطائفية السياسية اصطدمت بحواجز الطوائف نفسها، فإن مشروعاً «مدنياً» مشابهاً أطلقه وزير الداخلية منذ عام تقريباً اصطدم بدوره بالعقليات التقليدية السائدة. وكان الوزير زياد بارود الناشط الاجتماعي والحقوقي أجاز إلغاء القيد الطائفي عن سجلات النفوس، فاستجاب عدد كبير من المواطنين الباحثين عن فسحة خارج الاصطفافات المذهبية. وولد بذلك أول لبناني بلا طائفة. لكننا لم نعرف بعد، كيف سيعمل هذا اللبناني عندما يكبر إذا اختار وظيفة رسمية، أو كيف سيرشح نفسه للبلدية أو النيابة وهو محكوم بالترشح عن مقعد طائفي. وأبسط من ذلك، كيف سيرث ويتزوج ويلد؟ لعله سينضم إلى 700 شاب وصبية يستقلون الطائرة سنوياً لعقد قرانهم مدنياً في قبرص و «يرجعون إلى طوائفهم سالمين».