من المقرر أن تستضيف العاصمة الليبية مؤتمر القمة العربية، والمقرر عقده يومي 27 و 28 آذار(مارس) المقبل. ومن الواضح أن مؤتمر هذه السنة سيعقد في أجواء تتسم بقدر كبير من اللامبالاة من جانب رأي عام عربي يبدو أنه فقد اهتمامه بهذا النوع من المؤتمرات بعد أن أصبح مقتنعاً بانعدام جدواها وبمحدودية تأثيرها على مسار الأحداث. وإذا كانت الجامعة العربية قد أصيبت بانتكاسة كبرى عقب قرارها تجميد عضوية مصر ونقل مقرها إلى تونس في نهاية سبعينات القرن الماضي فقد بات واضحاً أنها لن تتمكن من استعادة عافيتها بسرعة حتى بعد عودة مقرها إلى القاهرة في نهاية الثمانينات. غير أن اتفاق الدول العربية عام 2000 على إدخال تعديل في ميثاق الجامعة يلزمها بالانعقاد الدوري للقمة العربية ساعد على تجديد الأمل في عودة الروح إلى هذه المؤسسة الاقليمية المهمة واستعادة دورها الفاعل على الصعيدين الإقليمي والدولي. غير أن الممارسة العملية خلال السنوات العشر الماضية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن انتظام القمم العربية في مؤتمرات سنوية لم يكن كافياً لإحداث نقلة نوعية في العمل العربي المشترك وأن الأوضاع العربية العامة أصبحت سيئة إلى درجة يبدو معها انعقاد القمم العربية وكأنه إنجاز في حد ذاته!. ويلاحظ أن رؤساء القمم العربية أصبحوا ينفقون الجزء الأكبر من وقتهم طوال الأشهر التي تسبق كل قمة في بذل الجهود لتنقية الأجواء العربية ولعقد مصالحات تسمع بانعقادها وتفادي كل ما قد يهدد بتفجيرها من داخلها ضماناً لنجاح شكلي لا فائدة ترجى من ورائه. وبهذه الطريقة تحولت القمم العربية إلى آلية تعمل بقوة الدفع البيروقراطي وليس إلى آلية لمواجهة تحديات مشتركة تواجه العالم العربي كما كان مأمولاً. لذا استمرت الأوضاع العربية في التدهور وانتقلت من سيّء إلى أسوأ على رغم انتظام القمم!. فهناك انقسام حاد على الساحة الفلسطينية مستمر منذ سنوات ولا تلوح بادرة في الأفق تشير إلى إمكان تجاوزه في المستقبل المنظور. والوضع في العراق ما زال متوتراً ومفتوحاً على كل الاحتمالات بما في ذلك احتمال اندلاع حرب طائفية قد تنتهي بتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات على أسس طائفية أو عرقية. والأحوال في السودان لا تبشر بخير بعد أن بات خيار انفصال الجنوب مرجحاً على خيار الوحدة، وتكرست الأزمة السياسية والإنسانية في دارفور بطريقة من شأنها فتح الباب على مصراعيه أمام شتى الاحتمالات بما فيها احتمال تفتت السودان وانشطاره إلى عدة دويلات في المستقبل المنظور. وفي الصومال لا تزال الحرب الأهلية التي اندلعت منذ سنوات مشتعلة بل وتتجه نحو المزيد من التصعيد في ظل عجز متواصل عن توفير بيئة محلية وإقليمية ودولية تساعد على إطفائها أو احتوائها. صحيح أن الأخبار المقبلة من اليمن ولبنان تبدو أكثر مدعاة للتفاؤل. فأزمة الحوثيين والتي ظلت حتى وقت قريب تهدد بتحول اليمن إلى دولة فاشلة جديدة في العالم العربي تبدو في طريقها إلى انفراج والأزمة السياسية المستعصية في لبنان بدأت بدورها تتجه نحو الحل. ومع ذلك يبدو أن الوضع في هذين البلدين العربيين لم يستقر بعد على نحو يسمح بالاطمئنان إلى أن النظام الإقليمي العربي بات على وشك استعادة وعيه المفقود والتعافي من وهنه المزمن. ولأن الدول العربية تبدو الآن غارقة بالكامل في قضايا وأزمات داخلية حادة فمن غير المتوقع أن تكون في وضع يسمح لها بالتفكير في قضايا تخص العمل العربي المشترك. لذا يمكن القول إن القمة العربية المقبلة ستعقد في واحدة من أشد لحظات النظام العربي ضعفاً وفي وقت يبدو فيه مطالباً أكثر من أي وقت مضى بمواجهة تحديات هي الأخطر في تاريخه يمكن إجمالها في ثلاثة: التحدي الأول يتعلق بإدارة الصراع مع إسرائيل خصوصاً بعد وصول «عملية التسوية السياسية» إلى طريق مسدود. والتحدي الثاني: يتعلق بإدارة العلاقة مع إيران خصوصاً في ظل تصاعد الأزمة بينها وبين الغرب على نحو يهدد بحرب جديدة في المنطقة. والتحدي الثالث: يتعلق بكيفية إعادة بناء مؤسسات النظام العربي نفسه بطريقة تنقذه من الانهيار وتمكنه من تدعيم العمل العربي المشترك. وفي ما يتعلق بالتحدي الأول يصعب على أي طرف أن يجادل في أن «عملية التسوية السياسية» انهارت تماماً ولم يعد هناك جدوى من استمرارها في ظل موازين القوى القائمة وبالتالي بات على العالم العربي أن يغير نهجه في إدارة الصراع مع إسرائيل. ولأن العرب راهنوا في الماضي على تغيرات محتملة في مواقف إسرائيل والولاياتالمتحدة ثبت أنها بنيت على أوهام لا وجود لها إلا في مخيلتهم لم يعد أمامهم سوى الاعتماد على قواهم الذاتية كأساس لنهج جديد في إدارة هذا الصراع الممتد. في مقدم الاشتراطات المطلوبة لإنجاح النهج الجديد أن تثبت الدول العربية: 1- أنها تتبنى موقفها موحداً من الصراع ولن تقبل بأقل من الشروط التي حددتها في المبادرة التي أعلنتها رسميا في قمة بيروت. 2- أنها جادة في موقفها هذا ومصممة على حشد وتعبئة قواها ومواردها الذاتية من أجل التوصل إلى تسوية بالشروط التي حددتها باعتبارها شروط الحد الأدنى. ولأن الأطراف المنخرطة في هذا الصراع وفي مقدمها الولاياتالمتحدة وإسرائيل اعتادت على مواقف عربية شديدة الاختلاف والتباين وعلى أن تسمع في العلن كلاماً مختلفاً عما تسمعه في الحجرات المغلقة فمن الضروري أن تغير الدول العربية سلوكها المعتاد وأن تتخذ إجراءات تكفل توحيد مواقفها من ناحية وضمان حشد وتعبئة كل مواردها في إدارة الصراع من ناحية أخرى. وأظن أنه آن الأوان أن ترسل الدول العربية لكل من يعنيه الأمر إشارات واضحة تفيد بأنه في حالة عدم قبول كل الأطراف المعنية مبادرتها كأساس للتفاوض خلال فترة زمنية محددة لا تتجاوز ثلاثة أشهر فسيتم سحبها وتبني مواقف جديدة. وفي وسع الدول العربية أن تغير من مفردات المعادلة الراهنة إذا أعلنت تخليها عن حل الدولتين والمطالبة بدولة موحدة على كامل التراب الفلسطيني تكفل فيها حقوق المواطنة كاملة للجميع. وفي ما يتعلق بالتحدي الثاني: على الدول العربية أن تدرك أن لا مصلحة لها على الإطلاق في التصعيد الجاري حالياً بين إيران والغرب وأن إسرائيل هي الطرف الرئيس الذي يقف وراء هذا التصعيد. صحيح أن جوانب عدة من سياسات إيران تثير القلق لدى دول عربية عدة وهو قلق مشروع إلا أنه يتعين على الدول العربية أن تعالج مصادر هذا القلق من خلال الحوار والتفاوض المباشر مع إيران وليس التهديد بالحرب أو بالعقوبات. وعلى رغم أن بعض الدول العربية تعتقد عن حق أن إيران ركبت رأسها وتتبنى مواقف متطرفة وغير مقبولة من وجهة نظرها ومصالحها إلا أن عليها أن تدرك في الوقت نفسه أنها لن تستطيع أن تنأى بنفسها بعيداً من ألسنة اللهب في حالة اندلاع حرب بين إيران والغرب أو بين إيران وإسرائيل، حتى ولو لم تكن الدول العربية طرفاً مباشراً فيها أو محرضاً عليها. فلا جدال عندي في أن إسرائيل ومن ورائها الولاياتالمتحدة تحاول توريط العرب في حرب ضد إيران. ولأنه يصعب على بعض الدول العربية منع الولاياتالمتحدة إن قررت الحرب من شن هجماتها على إيران انطلاقاً من قواعد عسكرية في اراضيها، فستصبح هذه الدول رغماً عنها طرفاً مباشراً فيها. لذا يبدو لي أن من الضروري أن لا تكتفي الدول العربية، خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، بالإعلان عن مواقف مناهضة لشن الحرب أو حتى ضد تشديد العقوبات ولكن عليها أن تتخذ الإجراءات التي تكفل عدم تورطها المباشر أو غير المباشر فيها. لكن ليس معنى ذلك أنه يتعين على الدول العربية أن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة التهديدات أو الممارسات الإيرانية التي تتعارض مع مصالحها خصوصاً ما يتعلق منها بسياستها تجاه العراق وتدخلها في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية. وفي وسع الدول العربية أن تحافظ على مصالحها بشكل أفضل إن هي تمكنت من توحيد مواقفها تجاه إيران ودخلت في مفاوضات مباشرة معها على أساس تبادل المصالح. وأياً كان الأمر فسيصعب على الدول العربية أن تتفق على إدارة موحدة للصراع مع إسرائيل أو على إدارة موحدة للعلاقة مع إيران تلتزم بها الدول العربية جميعاً وتكون خاضعة للرقابة والمساءلة القانونية والسياسية ما لم يحدث تغيير جوهري في الهيكل التنظيمي لجامعة الدول العربية حول ثلاثة محاور أساسية: الأول: يتعلق بضرورة إيجاد آليات جديدة في مجال التسوية السلمية للنزاعات العربية. وهنا يتعين الاعتراف بأن الآليات التي يتضمنها الهيكل التنظيمي للجامعة العربية تبدو في هذا السياق ضعيفة جداً وثبت عجزها عن العمل بكفاءة وانضباط خصوصاً في فترات الأزمات الحادة. لذا يمكن القول إن الجامعة العربية باتت في أمس الحاجة إلى: 1- آلية ديبلوماسية لتسوية النزاعات بالطرق السلمية في صورة هيئة حكماء تتكون من رؤساء الدول للقمم العربية الثلاث السابقة والحالية واللاحقة. 2- آلية قضائية للفصل في النزاعات ذات الصبغة القانونية في صورة محكمة عدل عربية تتمتع باختصاص إلزامي بالنظر في المنازعات ذات الصبغة القانونية. 3- مجلس أمن عربي يتولى فرض العقوبات على الدول الأعضاء التي تنتهك الالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب ميثاق الجامعة وتوضع تحت تصرفه قوات دائمة تتولى حفظ السلام . المحور الثاني: يتعلق بإيجاد آليات جديدة للأمن الجماعي العربي ومواجهة مصادر التهديد الخارجي خصوصاً عند وقوع عدوان على إحدى الدول الأعضاء. وهنا يتعين الاعتراف أيضاً بأن اتفاقية الدفاع العربي المشترك الموقعة عام 1950 استنفدت أغراضها ولم تعد قابلة للتطبيق، خصوصاً بعد إقدام دول عربية على إبرام معاهدات سلام منفصل مع إسرائيل، فضلاً عن أنها، من ناحية أخرى، لم تعد كافية لمواجهة مصادر تهديد جديدة تطرحها العولمة وما نجم عنها من تطورات تعكس نفسها بشدة على بنية وعلاقات القوة في النظام الدولي. المحور الثالث: يتعلق بإيجاد آليات جديدة تسمح بمشاركة حقيقية من جانب البرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني في عملية صنع القرار في الجامعة العربية. وهنا يتعين الاعتراف أخيراً بأن الآليات التي تم استحداثها خلال السنوات العشر الأخيرة وأدت إلى ظهور برلمان ومفوضيات عربية بدت شكلية بحتة وغلب عليها الطابع المظهري الناجم عن التقليد الأعمى لبعض السمات الظاهرة للتجربة الأوروبية من دون النفاذ إلى جوهرها. إن مواجهة هذه التحديات الكبرى وما تتطلبه من ضرورة إيجاد آليات جديدة ومبتكرة تفترض وجود نظام عربي لديه ما يكفي من الإرادة والوعي. ولأن تلك هي الفريضة التي لا تزال غائبة في النظام العربي، فالأرجح أن تكون قمة طرابلس العربية مجرد قمة باهتة أخرى تضاف إلى ما قبلها ولا تسهم في تحسين ما بعدها. * كاتب مصري.