كثيراً ما اتّسمت النظرة إلى الرواية البوليسية بالاستعلاء مقارنةً بالألوان الروائية الأخرى، على رغم ما تقتضيه كتابة هذا اللون من أدوات ومهارات وخبرات لا تتوافر لكثيرين من الروائيين والشعوب، فلا يمكن الكلام على رواية بوليسية عربية، على سبيل المثل. ولعل رواج هذا اللون الروائي يحتاج إلى أرضية مناسبة ومخيّلة بوليسية وأدوات فاعلة وأنماط معيّنة من العلاقات، ممّا توفّره المجتمعات الغربية لكتّابها، وتفتقر إليه المجتمعات العربية، الأمر الذي يفسّر ازدهار الرواية البوليسية في الآداب الغربية، وخلوّ الأدب العربي منها. من هنا، فإن اطلاعنا على هذا اللون الروائي يقتصر على ذاك المكتوب بلغة أجنبة أو المنقول عنها إلى اللغة العربية. في «صقيع الموت»، الرواية الخامسة المعرّبة للكاتب الآيسلندي أرنالدو أندريداسون (ثقافة للنشر والتوزيع)، تطرح الرواية فرضية حصول جريمة قتل في منزل للعطلات، قرب بحيرة ثينغفالفاتن القريبة من مدينة ريكيافيك الآيسلندية، وتعمل على إثبات هذه الفرضية طيلة صفحاتها، الأمر الذي يتحقّق في نهاية الرواية، وتتم ترجمته روائيّاً من خلال مثلّث علائقي، تشكّل شخصية المحقّق إرلندور رأسه، وشخصية الضحية ماريا، وزوجها المشتبه به بالدفين، زاويتيه الأخريين، مع وجود شخصيات أخرى متعالقة مع زوايا المثلّث الثلاث. يشكّل العثور على ماريا متدلّية من عارضة في سقف منزلها البداية النصية للرواية والنقطة القريبة من النهاية الوقائعية الفعلية، أي أن الرواية تبدأ من الآخر أو نقطة قريبة منه، وتنتهي بإثبات الفرضية التي طرحتها في بداياتها، ما يمنحها مساراً شبه دائري، فتنطلق من نقطة معيّنة، وتنحو منحى دائريّاً يمرّ بنقطة الانطلاق ويتجاوزها قليلاً إلى ما بعدها. وإذ يتمخّض التحقيق الأوّلي الذي يقوم به إرلندور عن الانتحار سبباً للموت، تأتي الزيارة التي تقوم بها كارين صديقة الضحية إلى مكتبه وشريط الكاسيت الذي تسلّمه إيّاه لتلقي ظلالاً من الشك حول نتيجة التحقيق وتطرح فرضية وجود عمل جرمي، الأمر الذي يتلقّفه المحقّق ويبدأ العمل على إثباته. وإذ تؤدي التحقيقات إلى وضع الزوج وصديقته في خانة المشتبه بهما، يروح يعمل على تحويل الشبهة إلى تهمة، ما يتحقّق في نهاية الرواية، بعد سلسلة من التقنيات التي يمارسها المحقّق. يتّسع إطار التحقيق في «صقيع الموت» ليشمل كلّ من ارتبط بالضحية أو المشتبه بهما، بعلاقة أو بأخرى، وعدداً من التقنيين من موقع استشاري، وتتعدّد أدوات التحقيق وتتراوح بين الاستجواب، والمراقبة، وجمع المعلومات، وقراءة الملفات، وجمع الأدلة المادية، والزيارة الميدانية، ومقابلة الأخصائيين، وإجراء البحث حول الشخصية، والكذبة البيضاء، والمناورة، والتهويل... في هذا الإطار، وبهذه الأدوات تتجلّى شخصية المحقّق إرلندور، بطل الرواية، كمحقّق نموذجي، يتّصف بدقّة الملاحظة، وحدّة الذاكرة، وطول النّفَس، والاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، والقدرة على المقارنة والربط والتحليل والاستنتاج. ويرفده في عمله حوادث حصلت له صغيراً، وتركت تأثيرها فيه كحادثة اختفاء أخيه الأصغر في عاصفة ثلجية، وهذا ما يدفعه إلى متابعة التحقيق في قضيتي اختفاء، تعودان إلى ثلاثين سنة خلت، قادت إليهما بالصدفة خيوط معيّنة لدى التحقيق في القضية الأساسية... على أن الصدفة تلعب دورها في مسار التحقيق، سواء في القضية الأساسية أو في القضيّتين الأخريين، فربّ كلمة يسمعها المحقّق عَرَضاً خلال الاستجواب أو معلومة يقع عليها أو شيء يشاهده يكون له / لها التأثير في مجرى التحقيق. لعل نموذجية المحقّق جعلته يعيد فتح ملفات قديمة تعود إلى ثلاثين عاماً، والوصول إلى نتائج حاسمة فيها، الأمر الذي يبدو مبالغاً فيه، حتى إن العثور على كتاب في سيارة غارقة في البحيرة، طيلة هذه المدة، من دون أن تتحلّل صفحاته، هو إلى الخيال أقرب منه إلى الواقع. الزاوية الثانية في مثلّث الرواية العلائقي تمثّلها الضحية ماريّا؛ فهذه الشخصية تشهد غرق أبيها طفلةً إثر شجار مع أمّها، تُضطرّ إلى كتمان ما حصل في حياة الأم، تفقد أمّها المتعلّقة بها بمرض عضال، تؤمن بالحياة بعد الموت، تنشغل بكيفية العبور إلى الضفّة الأخرى، تنتظر رسائل منها، تزور الوسيط الروحاني، تقع ضحية زوج فاشل، يميل إلى المغامرة، يقيم علاقة خارج الزوجية، يعاني صعوبات مالية، فيستغلّ أوهام زوجته ماريّا، ويروح يغذّيها لدفعها إلى العبور إلى الضفة الأخرى، ويتّخذ الإجراءات الكفيلة بذلك. وحين تفشل خطّته، يقوم بتعليقها وشدّ الأنشوطة حول رقبتها بتواطؤ وتشجيع من صديقته كارولينا التي تنتحل دور الوسيطة الروحانية ماغدالينا، وتُسهم في دفع الضحية إلى مصيرها. وهذا الزوج هو الزاوية الثالثة في مثلّث الرواية. وثمّة شخصيات أخرى ثانوية على هامش الزوايا الثلاث، تلعب كلٌّ منها دوراً معيّناً في دفع الحوادث قُدُماً، وهي شخصيات تتراوح بين الوظيفية كالصديقة، والابنة، والعشيقة، والأب، والأم، والأخ... والتقنية التي تلعب دوراً استشاريّاً كالطبيب، والغوّاص، والراهبة، والوسيط الروحاني، والممثّل، والصناعي... تتألّف «صقيع الموت» من سبع وثلاثين وحدة سردية تتفاوت في مساحتها بين فقرة واحدة للوحدة الأخيرة، وأربع عشرة صفحة للوحدة التاسعة، وتتعدّد المشاهد الروائية في معظم الوحدات، وتفصل بينها فواصل إخراجية. على أنّ ما يجمع بين الوحدات حضور شخصية المحقّق فيها جميعها تقريباً، ففي كلّ وحدة يقوم بعمل معيّن في إطار التحقيق؛ يستجوب، أو يزور، أو يستقبل، أو يُعاين مكاناً معيّناً. فنحن إزاء معادلة علائقية بين الشخصيات الروائية، قوامها المحقّق، من جهة، وسائر الشخصيات منفردة، من جهة ثانية. في ظلّ هذه المعادلة لا توجد علاقات مباشرة بين الشخصيات الأخرى، بل علاقات غير مباشرة، من خلال علاقة كلٍّ منها بالمحقّق، الشخصية المحورية، ما يجعل الرواية رواية المحقّق، رأس المثلّث، أكثر من زاويتيه الأخريين، القاتل والضحية. «صقيع الموت» رواية حوادث يلي بعضها بعضاً، تنمو في إطار سردي أو حواري، يقلّ فيها الوصف، تخلو من الأيديولوجيا، ويندر فيها التحليل، ما يجعلها تتخفّف من الوقفات الوصفية والتحليلية والمعرفية التي تثقل كاهل الرواية عامّةً، والعربية منها في شكل خاص. ولعل هذه المواصفات ناجمة عن طبيعة الرواية البوليسية التي تركّز على الحدث الروائي، ما يوفّر لها ميزة التشويق ومتعة التسلية، فينشغل القارئ بالمسار الروائي ومآله الأخير، ولا يهتم لمنظور روائي معيّن هو مدار الألوان الأخرى من النوع الروائي. وبذلك، تحقق الرواية البوليسية المتعة، أحد هدفي الأدب، على الأقل، غير عابئة بالفائدة، هدفه الآخر. إلى ذلك، ثمّة ملاحظتان اثنتان، أختم بهما هذه القراءة؛ الأولى هي أن أسماء الأماكن الأجنبية المكتوبة بالحرف العربي تجعل قراءتها من الصعوبة بمكان لا سيّما تلك الطويلة منها، ولعل كتابتها بالحرف اللاتيني إلى جانب العربي تذلّل هذه الصعوبة. الثانية هي أن ثمّة تعارضاً بين لوحة الغلاف والمتن الروائي؛ ففي حين يُظهر الغلاف امرأة متدلّية ترتدي سروالاً لونه «باج» وتنتعل حذاءً باللون نفسه، يقول المتن: «كانت المرأة الميتة ترتدي قميصاً قصير الكمّين وسروال جينز أزرق ولكن بدون جوربين» (ص14)، ما يعني أن من اختار لوحة الغلاف لم يقرأ النص. ومع هذا، «صقيع الموت» رواية تذيب صقيع الوحدة، وتؤمّن التسلية، فتحقق أحد هدفي الأدب، على الأقل.