جددت الحلقة النقدية التي ينظمها نادي جدة الأدبي أخيراً، السجال حول الدكتور عيد اليحيى وبرنامجه «على خطى العرب»، الذي يستعرض حياة شعراء ينتمون إلى عصر الجاهلية وما بعده، فعقب الانتقادات الحادة التي واجهها اليحيى من الناقدين سعيد السريحي ومعجب الزهراني، ونشرتها «الحياة» في تاريخ 6-7-2015، جاء الدكتور محمد ربيع الغامدي لينطلق مما نشر في «الحياة»، بيد أنه يرى على رغم قسوة انتقادات الزهراني والسريحي على اليحيى، فإن ما ذهبا إليه ليس السمة الأبرز في تقديم اليحيى، الذي يوضح أن هذه السمة تتمثل في لغة اليقين التي لا يداخلها شك. وقال الغامدي: «يؤكّد الرجل (عيد اليحيى) بلغة جازمة لا يداخلها الشك أن امرأ القيس مثلاً جلس على هذه الصخرة.. أو نام تحت تلك الشجرة.. وأن الوعل كان يمر من سفح ذلك الجبل.. وأن الشنفرى توقف في هذا المكان عند هذه النقطة وأنشد كذا... إلخ»، مشيراً إلى بروز سؤال ملحّ: كيف ولماذا اكتسبت هذه «الأخبار» عن شخصيات - ربما لم يكن لها وجود أصلاًَ - هذه القطعية عند أستاذ وباحث أكاديمي؟ ويزيد السؤال بروزاً وإلحاحاً كون هذه الحالة ليست حالة فردية خاصة ببرنامج تلفزيوني معين أو معد ومقدم معين، بل هي كما سنرى لاحقاً حال عامة مستشرية في الدرس الأكاديمي وفي مجتمع البحث العلمي، أي في صلب النشاط الذي نعده نشاطاً علميّاً». وأوضح الغامدي، في الحلقة النقدية، ورقة نقدية بعنوان «ملامح غير علمية في الأوساط العلمية، أنه وليس من المبالغة، «أن نقول إن كثيراً مما يحصل في الدرس الأكاديمي لا يختلف كثيراً في جوهره عن برنامج «على خطى العرب» في سمته البارزة المشار إليها. وقيمة «الشك» كما يقرر باحثو نظرية المعرفة تقف على رأس قيم المعرفة التي لا يمكن للمعرفة أن تتم من دونها. وتكتسب هذه القيمة أقصى قدر من الأهمية في مثل هذا الحقل المعرفي الذي يندرج فيه البرنامج التلفزيوني المتحدث عنه، إذ إنه يقف على حافتي حقلين معرفيين هما «الأدب» و«التاريخ»، في حقل معرفي آخر مستقل هو «تاريخ الأدب». وفي ورقته عرف الغامدي التنوير بأنه: خروج الإنسان من قصوره. وإذا كان «كانت» قد كتب هكذا، وقد قصد في ذلك الوقت بالإنسان عامة الناس عندهم، فإني أعتقد أن حركة التنوير بهذا المفهوم ضرورية اليوم للمنتمين إلى الوسط الأكاديمي عندنا». وكان الغامدي تحدث في بداية ورقته عن شعوره بالنفور من برنامج «على خطى العرب». وأشار إلى أنه تابع أجزاء من حلقاته، قبل أن يشعر أنه لم يعد قادراً على متابعة المشاهدة، «بل لقد أصبحت أنزعج حين أقع على البرنامج في أثناء تقليب القنوات، فأسارع مباشرة إلى تغيير القناة أو كتم الصوت». ومضى الغامدي قائلاً: «كنت قد نسيت البرنامج وقصة النفور منه إلى أن وقعت عيني في صحيفة «الحياة» على تعليقين على البرنامج، للصديقين الدكتور سعيد السريحي والدكتور معجب الزهراني. قال معجب عن البرنامج: «وجدته يُقدَّم بطريقة مضارب البادية». وقال سعيد عن صاحب البرنامج: عليه «أن يحسن قراءة ما يورده من أبيات الشعر في برنامجه، فلا يكسر وزناً ولا يلحن في النحو، فقد آذانا بما يتراكم في برنامجه من أخطاء في اللغة والنحو وأوزان الشعر»، معتبراً أن ما قاله الزهراني والسريحي صحيح، لكن ليس السمة الأبرز في البرنامج. وفي المداخلات علق الناقد علي الشدوي، الذي أدار الحلقة أيضاً، قائلاً: «إذا أردنا أن نفهم ورقة الصديق الدكتور محمد ربيع الغامدي، فلا بد من أن نأخذ بعين الاعتبار فكرة مهمة وهي: وجود أنماط فكرية لا يمكن أن تُفهم فهماً كافياً، طالما ظلت أصولها ومنابعها الاجتماعية مجهولة أو غامضة». وأضاف: «إذا كان صحيحاً أن الفرد هو القادر على التفكير، فإننا مع ذلك نخطئ إذا استنتجنا من هذا أن أصل الأفكار والمشاعر التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، أو أنه يمكن أن يشرح الأفكار على أساس خبرته الخاصة بالحياة»، متسائلاً: «ماذا يعني هذا؟ تحاشِي أن يُبدأ بالفرد الواحد وفكره؛ أي بدلاً من البدء بفكر الفرد يُبْدأ بفهم الفكر في بيئته المادية الملموسة في الوضع الاجتماعي التاريخي، الذي يبرز منه بتدرج بطيء الفكر الفردي. ذلك أن مَن يفكر ليس الناس جميعاً، ولا الأفراد المنعزلون، إنما يفكر الناس في جماعات معينة». وقال: «من وجهة النظر هذه، أعني تجاوز فكر الفرد إلى أصول فكره ومنابعه الاجتماعية، يمكن أن أتفهّم فكرة الدكتور الغامدي عن الملامح غير العلمية في الأوساط العلمية، وهي فكرة تبين صياغتُها المفارقةَ، فحيث يجب أن يكون هناك أفكار علمية يوجد أفكار غير علمية، وهي مفارقة لافتة للنظر ليس بسبب تناقضها فحسب، إنما أيضاً لأن السيرة الطويلة للتكوين العلمي لم تجدِ نفعاً في الأوساط العلمية، وهو ما يذكرني بفكرة العقل غير المدرسي؛ حين لا يستطيع التعليم أن يزيل ما حمله العقل معه إلى المدرسة من مفاهيم غير علمية للكتلة والحجم». وشهدت الحلقة عدداً لافتاً من المداخلات من الحضور، ومنهم سعيد السريحي ولمياء باعشن وفائزة الحربي وجواهر الحربي وعلياء العمري وسناء الغامدي وآخرون من رواد الحلقة النقدية.