ما جدوى المرآة سوى الوقوف أمامها، والوقوف كسل وخمول. إن عكست جمالاً نشرت الغرور، وإن عكست قبحاً أحبطت وشلّت ويتّمت. لو أنّ العالم بلا مرايا لما انتهى العالم إلى ما انتهى إليه، لكان ازدهر وتطور وتصدّر بعنفوان وشموخ لا يُضاهى. لو أنّ العالم بلا مرايا لما كرهت نفسي وكرهتكم على حد السواء. لكن المشكلة أن المرايا شائعة ومنتشرة ومتسللة ومنسلّة إلى حدائقنا ومقاهينا وبيوتنا مفتوحة ومغلقة. منسلة بألف شكل وشكل، متنكرة وسافرة وساخرة إذا جاز التعبير. لي مرآتي التي في ودي تحطيمها وتهشيمها ولك مرآتك، كلٌّ له مرآته الخاصة، نقيضه عدوه اللدود الذي يصرعه في نهاية المطاف وآخر الأمر، ولو كنت حاكماً في مدينة ما، وقد سبق وحذرتكم ألا تسمحوا لي بحكم فرخة، لأنني سأنزح منها الفرحة. إلا أنني لو كنت لما تأخرت لحظة عن إصدار أوامري الديكتاتورية الصارمة والقاطعة والباتّة بتحطيم كل المرايا وتهشيم كل زجاج يعكس طيفاً، وتقويض كل معدن يُظهِر خيالاً، ولما توانيت عن تعكير كل البرك والبحيرات والأنهر والبحار وسبل المياه الجارية والراكدة لئلا تبث صورة. ولعله من حسن الحظ أنني أسكن على شواطئ جدة، التي تمنعك حتى من رؤية وجه القمر فما بالك وجهي ووجه كل من «يوسخ» شواطئها! ما علينا، لكن لو كنت ذات سلطة ما كانت لتسلم مني كاميرا أو جهاز تصوير أو تسجيل، وهذا أمره بسيط عندنا، فما تقول لإحداهن أو أحدهم جوال بكاميرا حتى يصاب بإغماء، وبدلاً عن عبارة ممنوع دخول «المغاتير» في الأفراح، صرنا نقرأ ممنوع دخول جوال بكاميرا. كل ذلك يحدث بمساعدتكم ووعيكم وخوفكم من أن تُلتقط لكم صورة في الجو أو البر أو البحر. إذاً الكل خائف من صورته ومرآته. وهكذا لو ألغينا كل المرايا فأنا متأكدة أن الحياة ستتخذ منحى آخر من دون الصور والكاميرات، حياة أكثر حماسة وانطلاقاً وتوثباً لحصاد النجاحات وتحقيق الأماني والأهداف ورسم الأحلام البعيدة والسعي في اتجاه تحقيقها. كلام جميل! أمنيات ونجاحات وحماسة وتوثب كلام جميل مني لمجرد أنني ألغيت المرآة. المرآة إذاً هي لب المشكلة، وهي المحرك الذي لم يهتد أحدٌ إلى أهميته وخطورته في آن. ولو كنت أملك سلطة على أي بقعة من هذه المعمورة المهددة بالخراب، لما توقفت عند هذا الحد، بل كنت سأزج في السجن بكل من يمتلك شخصية «مرآتية»، لأريح الآخرين من انتقاداته اللاذعة وشروره وزرع الإحباط والأحقاد في عكس صورة الأشياء وضخها على مدار اليوم، وكأنه قد حكّم نفسه قاضياً على كل لفتة من لفتات البشر أو عدسة كاميرا ترصد كل حركة من حركاتهم. ما جدوى المرايا والشخصيات «المرآتية»؟ مرايانا تذكير، ونحن في أمسّ الحاجة إلى التناسي! مرايانا أشباح، ونحن نتطلع إلى ملائكة وإلى سكون داخلي وسلام وهدوء وأمان. مسكين من حوّل جدران بيته مرايا وسقف بيته مرايا وأرض بيته مرايا وأصدقاءه مرايا وزملاءه مرايا وجيرانه أيضاً مرايا... ومسكينة مرايتي! خلف الزاوية إن في مسمعي لصوتك انتظارا ولمرآك في عيني جمراً ونارا [email protected]