«بعد الحرب العالمية الثانية، لجأوا (الحلفاء) إلى العدوان العسكري لتحويل أمة بأكملها إلى شعب لاجئ بلا مأوى بحجة عذابات اليهود، وأرسلوا من أوروبا والولايات المتحدة وأجزاء أخرى من العالم مهاجرين لتأسيس حكم عنصري تماما في فلسطينالمحتلة. ولتعويض النتائج الرهيبة للعنصرية في أوروبا، ساعدوا نظاما في فلسطين هو الأقسى والأكثر قمعا». جِدْ الخطأ ولك جائزة كبرى! نص خطاب السيد احمدي نجاد بات متداولا بكل لغات الأرض، ومنشورا على المواقع لمن شاء القراءة ولم يكتف بالإشاعات. وهو صائب تماما، وقائعيا، أي تاريخيا، وفي التعابير. يقال إن الأمين العام للأمم المتحدة نجح في إقناع الرئيس الإيراني بشطب عبارة من خطابه تنعت «الهولوكوست» ب»الغامض والمشبوه»: لعل الرجل كان ينوي من الأساس «بيع» التنازل إلى بان كي مون، وهو لو لم يفعل لكان منح أعداءه دليلا على التهم الملصقة به... لكنه فعل، ولا يمكن محاكمة نواياه ولا مسودة نصه. انسحب المندوبون الأوروبيون من القاعة، بينما كان ممثلو دول العالم الثالث كلهم يصفقون بحماسة، ولم يغادر أي منهم مقعده. ولم يكتف أحمدي نجاد بفلسطين، بل أشار إلى العدوانين على أفغانستان والعراق كما تناول الأزمة العالمية. هذا مثال ممتاز عن الانقسام القائم في العالم اليوم. وهو قال ذلك في مؤتمره الصحافي عقب الخطاب: «نحن أغلبية العالم». صحيح ثانية. المشكلة هي أن السياسة ليست نصوصاً. والأدق القول إنها لا تنتج عن صحة أو خيبة الكلام والمواقف، بل عن (اختلال في) توازن قوى شرس يدافع فيه المهيمنون عن هيمنتهم، بغض النظر عن صوابها أو ظلمها. أكثر من ذلك: يقوِّل المهيمنون مناهضيهم ما شاؤوا. أما إذا حدث واخطأ «مستضعف» بالكلام، فله الويل والثبور: في حركة نصرة النضال الفلسطيني في أوروبا، رفعنا منذ البداية شعارا تأسيسيا يقول انه يحق لنا «صفر أخطاء»، لأن أي خطأ نرتكبه، كلاماً أو فعلا، قاتل بلا مراجعة: أي ظلم هذا! ولكن المشكلة المقابلة هي أن المهيمنين، رغم ما يُفترض من عدم أهمية الكلام - كما تُردد القواعد المدرسية لعلم السياسة - يريدون امتلاك الحق الحصري لرواية الواقع بدقائقه، بما يتجاوز ما كان يقال له «المنتصر يكتب التاريخ». وترجمة ذلك عدم اكتفاء إسرائيل بوجودها الساحق، وبتأويلها هي لسبب وعلة هذا الوجود من أنه تحقّق للوعد الإلهي، بل في غيظها وحلفائها من تجرؤ ضحاياها، ومعهم الضمائر الحرة من العالم، على سرد رواية أخرى لذلك السبب والعلة. فأي جبروت هذا! ثم، تدّعي الجماعة المهيمنة أنها تدافع عن حرية التفكير، ولا تريد إبقاء قدسية لشيء (بما فيه الدين، وهو وعاء القدسية بغض النظر عن الإيمان)، وهذا جيد ومحق في المبدأ، أو فلنقل نظرياً، إذ يناهض المحرم أو التابو ويخفف من وطأته. ولكنها هي نفسها تفرض قدسية، وإن لائيكية، على روايتها للواقع. فكل خروج عن النص المتوافَق عليه بوصفه صائبا سياسيا يستدرج صواعق غضب جوقة الديماغوجيا التي تبدأ من عند السلطات وتمر في الإعلام المهيمن وتنتهي على شكل شائعة/ قناعة راسخة في الشارع. فلنعد إلى تطبيقات التمرين كما يوفرها مؤتمر جنيف. أعلن منذ البداية أن إسرائيل «خط احمر». وبقيت حجة ذلك تتراوح بين «محو الآثار السلبية لمؤتمر ديربان الأول» في أيلول (سبتمبر) 2001، ورفض التركيز الأوحد على إسرائيل وتلخيص مسألة العنصرية في العالم بها - وهي حجة محقة تماما -، وعدم ممارسة استفزاز يعطل مسار السلام (أكثر مما هو معطل). والأسباب الثلاثة مضطربة. فلم تحو قرارات ديربان الأول - يمكن مراجعتها وهي الأخرى متوفرة على المواقع وبكل اللغات - المتعلقة بإسرائيل أي نص مخجل أو ملتبس أو مخالف لما قالته قرارات الأممالمتحدة نفسها على مر العقود الستة الماضية. وبالمقابل، يمكن توجيه نقد شديد إلى ممارسات بعض الجمعيات غير الحكومية التي حضرت ذلك المؤتمر، وبعضها وزع مثلا كتاب «بروتوكول حكماء صهيون»! ولكن ضرب هذا بذاك، وإشاعة جملة غامضة تسري وتقول «فظاعات ديربان الاول»، معيب قدر عيب توزيع الكتاب المأفون، هذا لو كانت الدنيا تسير وفق معايير الأخلاق والقيم. أما الحجة الثانية فلا يعالجها الاتجاه إلى تبني نص جرى تقليصه وتسطيحه ورفع كل مضمون منه إلى حد أنه بات لا يقول شيئا (يقال لذلك «معجزة» الديبلوماسي الروسي الذي حول النص المتوافق عليه إلى 17 صفحة عوض ال 147 الأصلية). ثم يُعتد بأن الوفد الرسمي الفلسطيني وافق، فما شأنكم؟ سؤال: إلى متى سيستمر توظيف السلطة الفلسطينية بما يستنفد كل ذرة شرعية وطنية عامة لها؟ وما ترى الدول المهيمنة صانعة بسلطة عصرت إلى هذا الحد التعسفي؟ ولكن كل ذلك أحد صعيدي جنيف. صعيد يبرز بوضوح وجود منطقين متقابلين، وكتلتي مصالح لا لبس في توصيف كل منهما. وللتوضيح أكثر، فقد قام اليساريون اليهود والإسرائيليون الحاضرون في جنيف بالمشاركة في كافة الندوات والتجمعات لمقارعة المنطق المهيمن والحضور الصهيوني الكثيف (رغم غياب إسرائيل الرسمي عن المؤتمر، ولكن في ظل اهتمامها الفائق بمجرياته ونتائجه). فعلوا وتصدروا المواجهة ورفعوا أصواتهم بالصراخ والسجال بالعبرية، لإبراز الطابع الفكري والسياسي والقيمي للمعركة الجارية. يبقى صعيد آخر، سيطر على المشهد وإن كان في العمق أقل أهمية. إنه المتعلق بوظيفة الاستعراض الذي قام به السيد احمدي نجاد، مستقطبا الأضواء والنقاشات، وملغياً بالتالي كل ما عدا «النمرة» التي أدّاها. يقال إنه حضور انتخابي بالنظر إلى المعركة الصعبة على منصب الرئاسة التي يخوضها الرجل. يقال بل هو تأكيد على الزعامة العالمية في وقت تضاءل فيه عدد زعماء العالم الثالث. والمؤكد أن مثل تلك الممارسة تغلِّب الطابع الفوقي للمواجهة الجارية وتبقيها صراع أقطاب. وهي رغم ضوضائها، محدودة الأثر على تعديل توازن القوى ذاك، وهنا بيت القصيد. وهذا هو مقياس تحليل الواقعة - ومثيلاتها - وتقييم نتائجها. وهي نقطة في غاية الأهمية والتعقيد، وينبغي لها أن تثير نقاشا حول وسائل الفعل في الواقع وأدوات توظيف الأحداث، مما نحن بعيدون عنه في تقاليد السجال الجاري والمحلق عادة فوق غيوم المبادئ أو اللفظيات.