يستوحي الكاتب الأسترالي بيتر كيري حياة المفكر السياسي الفرنسي ألكسي دو توكيفي في روايته الأخيرة «أوليفييه وباروت في أميركا» الصادرة في بريطانيا عن دار فابر وفابر. بطله أوليفييه - جان - باتيست دو كلاريل دو بارفلور دو غارمون يولد بعد الثورة لأبوين من النبلاء كادا يفقدان رأسيهما على المقصلة لو لم ينقلب الثوار في آخر لحظة على ماكسيمليان روبسبيير، بطل عهد الإرهاب الذي تخلص فيه من خصومه. يشغل الطفل والديه بحساسيته الفائقة وكثرة مرضه ويعالج بالعلق. يصدم عندما يرى في صحيفة قديمة صورة لإعدام الملك لويس السادس عشر، وترعبه شفرة المقصلة طوال حياته. يكتشف أن الكثير من أقاربه أعدم في الثورة، وأن العائلة حفظت ذكرى كل منهم بجثة حمامة لفت بالورق. تنعزل الأسرة في قصرها في النورماندي، وتبقى على ولائها الراسخ للعهد الملكي بينما ينتقل نابوليون من مجد الى آخر. لكن شارل العاشر لا يكافئها على إخلاصها بل يقصيها حين تعود الملكية إثر نفي نابوليون للمرة الثانية. عندما يشترك مؤرخ صديق لأوليفييه في مؤامرة على الملك، تخاف الأسرة على حياته وترحّله الى أميركا بحجة دراسة نظام السجون فيها. تنتقل الرواية الواسعة بين صوتي أوليفييه وخادمه الإنكليزي الظريف الذي لقب «باروت» لقدرته المذهلة على التقليد. تشرد طفلاً مع والده، وتدرب على النقش، لكنه فشل في احتراف الفن فامتهن الخدمة في منتصف عمره. أعدم والده صاحب المطبعة بتهمة تزوير الأوراق النقدية، وطال العقاب ابنه فأرسل ظلماً الى أستراليا التي بدأت حياتها سجناً إنكليزياً للمجرمين الخطرين. تزوج فتاة إرلندية هناك، وعمل طويلاً في خدمة تالبوت الغامض، وها هو يرافق سيده الشاب في رحلة الى أميركا تستغرق شهرين بحراً. يطوفان المستوطنات والبلدات البدائية في العالم الجديد الذي يسحره غياب الطبقات عنه. أوليفييه يبهر أيضاً بالمساواة ويحب ابنة مزارع بصل، لكنه يخشى حكم الشعب ويرى وجه الديموقراطية القاتم. يستشرف مثل دو توكيفي، الآتي من طبقة النبلاء مثله، انحطاطاً في الثقافة وجهلة يصلون الى القيادة السياسية. وإذ يبدآن رحلتهما وهما يتبادلان الاحتقار والبغض يتعرّف أحدهما الى الآخر خلال التجربة الأميركية التي تنتهي بصداقة واحترام مفاجئين. ولد ألكسي دو توكيفي بعد هبوب الثورة الفرنسية في 1789 وكاد والداه يعدمان لولا سقوط روبسبيير في 1794. غادرا الى انكلترا وعادا خلال حكم نابوليون، وعيّن والده لورداً. أيّد تحرير العبيد والتجارة الحرة واستعمار الجزائر، وعندما هددت حياته في ثلاثينات القرن التاسع عشر ركب الباخرة الى أميركا لدراسة نظام السجون فيها، وعاد بتقرير ومادة كتابه الشهير «عن الديموقراطية في أميركا» الذي نشره في 1835 ولا يزال يعتبر دراسة جادة تعبّر عن المجتمع الأميركي. وصل بيتر كيري (66 عاماً) الى نيويورك منذ عقدين مع زوجته الثانية، ولا يزال يعيش هناك مع زوجته الثالثة، ويشعر بأنه جزء من المدينة التي يحبها وليس منها. يقول «نحن» و «هم»، ويرى مثل دو توكيفي أثر الديموقراطية في الهبوط الفني ووصول حمقى شعبويين الى السلطة. «خوفه الكبير من حكم الغالبية يبدو غبياً ورجعياً لنا، لكنك لا تلبث أن تدرك أنك تجلس هنا بينما سارة بالين توشك وأنت تكتب على أن تصبح ربما نائبة الرئيس (...) وتنظر الى جورج بوش وتفكر أن هذا هو بالضبط ما كان يتكلم عنه دو توكيفي». مبالغات أقلقت الأسئلة الوجودية ليو تولستوي إلى أن رأى الخلاص قبل بلوغه الستين في علاقات الأسرة الطيبة والإشباع في الحياة اليومية. غيّر رأيه في بداية عقده السادس، ووجد بعض البلسم في الامتناع التام عن الجنس، فاحتجت زوجته صوفيا التي صغرته بعقد ونصف عقد. كتب مع أفراد أسرته اليوميات، وتركوها مفتوحة ليتواصل أحدهم مع الآخر، وصدرت أخيراً «يوميات صوفيا تولستوي» مترجمة الى الإنكليزية عن «ألما بوكس» في بريطانيا. كانت صوفيا أندرييفنا بيرز في التاسعة عشرة عندما تزوجت الكونت لف نيكولاييفتش تولستوي في 1862. أحبته شخصاً وكاتباً شهيراً، وخابت عندما قرّر التنكر لإنسانيته والبحث عن القداسة. هجس قبل الزواج بالقمار وبنات الهوى والتجوال في أوروبا الغربية، ومدحت القصص التي كتبها عن طفولته وقتاله في القوقاز والقرم. رأت صوفيا قربها منه امتيازاً، لكن الموت أرعبه دوماً، فآثر في منتصف العمر الانسحاب من الدنيا والبحث عن دينه الخاص. رفض الأسرار المقدسة والعجائب والثالوث الأقدس وخلود الروح والعهد القديم وبعض ذلك الجديد. دعا المسيح «الرجل يسوع» رافضاً بعده غير البشري، وقال إنه كان حكيماً أدرك معنى الحياة. لم يعثر على الخلاص في كنيسته الأرثوذكسية، ورأى المؤسسات المسيحية فاسدة مسيئة الى تعاليم يسوع، فحرمته في العام 1901. في «الحرب والسلم» يبحث بيير بيزوكوف عن الحقيقة وينضم الى الماسونية، ثم يكتشف أنها تعصى عقيدة محددة وتوجد في الوجوه المختلفة لحياتنا اليومية. في «آنا كارنينا» يسمّم القلق حياة قسطنطين ليفين المذعور من الموت الى أن يستسلم لمتطلبات أسرته الصغيرة، ويجد المعنى في دورة الحياة اليومية. بعد هجره الأدب كتب تولستوي إنجيله الخاص، وحدّد وصاياه، فتجاوز طهرانية المسيحية القاسية، ودان ماضيه. لا تغضب، لا تشته، لا تقسم، لا تقاوم الشر، أحب أعداءك. جذب الإعلام العالمي والكثير من المريدين الذين قصدوا قصره في يسنايا بوليانا البعيدة أكثر من مئتي كيلومتر من موسكو، واحتلوا غرف نوم الخدم والممرات. أسر غاندي بوصيته عن الشر التي عنت الامتناع عن مقاومته بالمثل، ودعا أتباعه الى رفض القتال والانتخاب. في 1891 منعت روايته «سوناتا كرويتزر» في روسيا ثم أميركا، ورآه الرئيس ثيودور روزفلت منحرفاً جنسياً وأخلاقياً. تخون امرأة زوجها مع عازف كمان تؤدي معه «سوناتا كرويتزر» لبيتهوفن. يعود الزوج من سفره ويجدهما معاً في السرير، فيقتل زوجته طعناً بالخنجر، ويعجز عن مطاردة العازف لأنه لم يكن منتعلاً حذاءه. «تذكرت أن من السخف أن يركض المرء خلف عشيق زوجته بجوربيه، ولم أشأ أن أبدو سخيفاً بل مخيفاً». دان «المبالغات الحيوانية» و «الرابط الخنزيري» بين الجنسين، فأنهى التواصل مع زوجته التي أخفى يومياته «الحقيقية» عنها. تعزو صوفيا أسباب تعاستها الى كون أطفالها غير سعداء بالقدر الذي ترغب فيه «وأنا في الحقيقة وحيدة جداً. زوجي ليس صديقي. كان أحياناً عاشقاً متقد العاطفة خصوصاً بعد تقدمه في العمر، لكنني شعرت بالوحدة معه طوال حياتي. لا يمشي معي بل يفضّل التأمل في ما يكتبه وحيداً. لا يبدي اهتماماً بأطفالي لأنه يجد ذلك صعباً ومملاً». تمتعت صوفيا بحياة طبقتها، وأحبت الحفلات ورحلات الصيد والمسرح والأوبرا والموسيقى، لكن تولستوي ملّ العادات البورجوازية وفتش عن خيار آخر. تروي أنها قصدت غرفته في خريف 1903 فرأته يستعد للنوم: «أدركت أنني لم أعد أسمع منه كلمة مواسية أو لطيفة واحدة (...) مات زوجي المشتعل عاطفة، وبما أنه لم يكن يوماً صديقاً لي فكيف يصبح صديقاً اليوم؟ هذه الحياة ليست لي. ليس هناك ما أضع فيه طاقتي وشغفي بالحياة، لا لا اتصال بالناس، لا فن، لا عمل، لا شيء إلا الوحدة الكاملة طوال اليوم». بعد عامين سألته لماذا توقف عن كتابة الأدب، فقال انه يستطيع الإجابة لأنهما وحيدان لا يسمعهما أحد. كتب دائماً بدافع من الحب الجارف «وهذا انتهى تماماً». مازحته بالقول ان في امكانه أن يحبها ليكتب، فرد أن الأوان فات. تبادلت العداء مع أتباعه ولا سيما منهم مساعده فلاديمير تشرتكوف الذي يغضها وحرّض زوجها عليها، فتشاجرت علناً معه وعرف الصحافيون المتربصون بالأسرة خلافها مع الكاتب. حضه تشرتكوف على وهب حقوق طبع كتبه للشعب الروسي، في حين تمسكت صوفيا بالزوج والوالد. حاولت رمي نفسها في بركة القصر واتهمت بالجنون. تعب الكاتب من الحرب حوله وفيه، وغادر مع طبيبه وابنته ألكساندرا الى إستابوفا حيث مات بداء الرئة في محطتها. عاشت بعده تسعة أعوام، وفي مدونتها الأخيرة تذكر اجتماعاً درس طريقة حماية القصر وغابته من الثوار البولشفيين. تصف العربات والثيران والناس الذين يتدفقون نحو تولا، وتذكر بجو الهرب من موسكو بعدما احتلها نابوليون في «الحرب والسلم».