قال، وكان في أواخر أيام مرضه، وبذلك العمق الداخلي الذي كان يعبر به عن تجربته الإنسانية الفياضة بقيم العدل والحرية، وبذلك الفيض الذي واجه به الكاتب اليوناني العظيم "كازنتزاكيس" ضعف الإنسان، ورغبته الدائمة في الصعود بحثا عن كمال مفتقد. عندما داهمت أحوال "كازنتزاكيس" المرضية روحة قال يحادث زوجته: "أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل .. خيم الظلام وقد انتهي عمل النهار.. أعود كالخلد، إلى بيتي الأرض.. ليس لأنني تعبت وعجزت عن العمل، فأنا لم أتعب، لكن غربت الشمس". كان يتمني قبل رحيله أن يذهب حيث ناصية الشارع ويمد يده متسولا من العابرين ويرجوهم: زكاة يا أخوان.. ربع ساعة من كل منكم لأتم عملي ثم يأتي الموت. كان يود كمحب أن ينتهي من مذكراته الشخصية "تقرير إلي جريكو"، وكان "نيكوس كازنتزاكيس" الاستثناء الوحيد بين كتاب العالم الكبار الذي جعل من المصير الإنساني، ومواجهة لقدره موضوعاً لابداعة.. كانت حياته عزيزة إلى الحد الذي بذلها ليعين الإنسان علي تحمل آلامه لقد كانت حياته مفعمة بالألم والفرح والعذاب، وأمضى عمره تساعده تلك اللحظات للصعود الدائم نحو الحرية وكان دائما ما يقول "لا تحكموا علي بإعمالي بل احكموا علي الهدف المختصر وراء أعمالي" قرأته منذ الصبا فنبهني إلى أن الكتابة التي تبقى في ذاكرة الوقت هي تلك الكتابة التي يكون الإنسان وأحواله هما المادة الأولى لها لقد ظل هذا الكاتب العظيم يؤمن بأن عروقه يجري بها دم عربي.. انحدر أهل والده من قرية تدعي "بار بادي"، وحين استعاد الإمبراطور الروماني "تيسو فوروسر فوكاس" كريت من العرب وزعهم علي عدة قري.. وفي مثل هذه القرية عاشوا فخورين وعنيدين مثل أسلافهم سكان الصحراء كان "كازنتزاكيس" يخفق قلبه فرحاً عندما يصادف نخله، وكان يظن أنها تعود لمسقط رأس أجداده في تلك القرية البدوية التي يزينها النخيل والشمس الصاهلة، وفتوة الرجال، والعاطفة المتقدة التي يعقبها فجأة ضربة السيف فتسيل الدماء.. يذكر انه عندما دخل مرة إلي الصحراء العربية على ظهر جمل وتصفح امواج الرمال، صفراء وزهرية، وفي المساء بنفسجية عند ذلك زعق قلبه كأنثى الصقر، وشعر بأنه ينتمي لهذا المكان ظل طوال عمره يؤمن بأن العرب لم يصلوا إلى هذه الدرجة من البؤس إلا أنهم غادروا صهوات جيادهم .. كان هذا اليوناني يؤمن طوال عمره ويعيش تحت وطأة التيار المزدوج من الدم، اليوناني من جهة أمه، والعربي من جهة أبيه، حيث منحه هذا الدم القوة والغبطة والغنى على محبة الإنسان والحنو على لحظات ضعفه، ومحاولاته في صراعه مع وجوده وتجاوز انكساراته أمام قدره. نيكوس كازنتزاكيس في روايته الهامة "زوربا اليوناني" يأتي هذا الإنسان من المجهول، يفيض من بحر أيامه، يحمل قدره بين عينية محدقا في المغيب، يمتلك قيم الإرادة علي الفعل، وصدق ممارسته وجوده اليومي على الأرض ..يفيض قلبه بعشق الدنيا فينتصر مره، وينكسر مرات، لكنه ينهض من رماد الخسران مثل طائر "الفينيق و تتشح روحه بالفرح.. وتجد علاقاته في الرواية مع "بوبولينا" والأرملة المذبوحة.. ومع الكاتب نفسه، وصراعهما عند انهيار المنجم.. ومع انكساراته وهزائمه التي يواجهها بالرقص وسط الصحراء، وأمواج البحر تختلط رؤيا "زوربا" في الكتاب برؤيا الكاتب المبدع في الحياة.. ويساعد المتخيل صانع الأدب العظيم علي انجاز ابداعه.. يذكر "كازنتزاكيس" من أخذوا بيده، من أناروا طريقه بالمعرفة، يذكر "هوميروس" العين الاخاذة مثل قرص الشمس.. وبوذا عميق الغور.. وبرجسون الذي ساعده علي أن يتخلص من مشكلات الفلسفة.. ونيتشه الذي ساعده أن حول المرارة إلى كبرياء.. لكن زوربا من علمه محبة الحياة والإنسان. لقد تعلم من خلال نظرته الأولى للوجود عشق العناصر: الماء والهواء والتراب والنار.. وكان ذلك قاعدته لاكتشاف الضعف الإنساني (جوهر الحياة).. وفي الرواية ذهب مشروع المنجم إلى الزوال لكنه ظل إذا ما سأل زوربا: لماذا كنا نحفر وما الأهداف؟.. كان زوربا يجيبه: أننا نحفر لنكتشف أعماقنا نحن.. وهكذا تعلم من خلال هذا الرجل كيف يتجاوز الضرورة إلى الحرية، وانه كم عرف قيمة ترابه الكريتي. جاءته رسالة يوما، وعليها أشارة العزاء.. فهم أن زوربا قد رحل وأظلم العالم.. وتساءل كيف يغيض هذا النبع؟.. وما الذي يستطيعه ليطرد موته عنه؟.. كيف يستطيع أن يجمع زوربا من التراب والبحر؟ ثم كتب كازنتزاكيس روايته الخالدة فجمع أشلاءه في السطور، ونفذ بعبقريته إلى مطلق وجود الإنسان، فكان "زوربا" في الأدب مثالا لكل رجل جميل في الحياة.