هنا في برلين، حيث التجأت، استلقي في الفراش ليلاً لأنام ولكن النوم لم يعد يأتي بسهولة فقد أصبحت الأخبار الواردة من حلب مدمرة للأعصاب. الحرب مستعرة هناك ومن بعيد تبدو الحرب الأهلية أكثر قسوة وأكثر تدميراً. أتقلب في الفراش وقد تعبت من مطاردة النوم وحيداً، فقد فارقتني زوجتي قبل ثماني سنوات والقلق على من اختار البقاء هناك من أهلي يتعاظم كل يوم. ومنذ أن خرجت من المدينة أصبح عنف النظام أكثر شراسة ولم تسلم مدينة في سورية من آلة التدمير، أما الآن فالحرب تجري في أقدم مدن التاريخ وأكثرها غموضاً. أصيب مدخل قلعة المدينة بقذيفة هدمت جزءاً من جدار المدخل. هذه القلعة التي تتوسط المدينة التي نمت وكبرت من حولها. إنها المكان الذي تتجمع فيه أسرار التاريخ. كنا صغاراً حين كنا نتسلق الهضبة التي تتربع القلعة فوقها مشرفة على المدينة كصقر يحميها من فئران الظلام. حينها كنا نود أن نكتشف بعضاً من أسرار القلعة. سمعنا الكبار يقولون إن هناك سرداباً عميقاً يصل القلعة بخارج المدينة، كانوا يستخدمونه لتزويد القلعة التي يحاصرها الغرباء بالمواد الغذائية الضرورية لاستمرار مقاومة الجنود المدافعين عنها. كان السكان ينتقلون إلى القلعة حين يداهمهم الأعداء فتغلق أبوابها ويستعد الرجال للدفاع عنها. كان هذا السرداب ضرورياً أثناء الحرب وكذلك أثناء السلم ليهرب منه الملك حين يثور عليه الشعب، كذلك كان طريقاً يسلكه العشاق للدخول والخروج بشكل خفي. لم نكتشفه، ولكن الجميع يعلم أنه موجود. ثم إنني أتذكر يوم كانوا يهدمون منزلاً عتيقاً لإقامة مبنى حديث. كانوا يحفرون الأساسات حين انكشف سرداب معتم. كان هذا جزءاً من قناة حلب التي تتشعب تحت بيوت المدينة كمترو الأنفاق الآن في بعض المدن. كان السقف القنطري مبنياً بالحجارة بينما المياه تسيل من منبعها لتنتشر في أرجاء المدينة القديمة. كانت تلك اللحظة مهمة في حياتي كصبي فنزلت أنا ورفاقي لنتفرج. كان عالماً سحرياً ومخيفاً في آن معاً. غصنا في المياه التي كانت تأتي من قرية «حيلان» شمال المدينة بينما تحفر في كل بيت بئر تصل إلى القناة في الأسفل. سجلت في أحد أعمالي الروائية كيف أن الشبان كانوا يختبئون في البيوت هرباً من فصائل التجنيد العثمانية التي كانت تبحث عنهم وتلتقطهم لسوقهم إلى الحرب العالمية الأولى. حين كان الشبان يشعرون بخطر مداهمة هذه الفصائل لبيوتهم كانوا ينزلون إلى البئر ليختبئوا في القناة بينما الجيران يدلون لهم الأطعمة بالحبال إلى أسفل بيوتهم. استخدم هذه الطريقة أيضاً اللصوص والعشاق. كانوا يتسللون من الآبار ليلاً ليقضوا حاجتهم ثم ليهربوا بالطريقة نفسها إلى عالم متشعب يقودهم إلى أي مكان يريدون. طرقات المدينة القديمة متشعبة بشكل غير منتظم والكثير منها لا يزيد عرضه على متر ونصف المتر أما أسطح البيوت فهي متلاصقة ومستوية ويسهل السير فوقها والانتقال من سطح بيت إلى سطح بيت آخر، وهذا مناسب جداً للصوص والهاربين من الشرطة أو من الآباء أو الأزواج الغيورين. أنا نفسي كنت أجول ما بين هذه الأسطح لا لشيء إلا لمتعة مشاهدة بيوت الآخرين من الأعلى. كنت صبياً لم أبلغ سن المراهقة حين لفت انتباهي أحد البيوت حيث كانت صاحبته الجميلة والصبية تستلقي في فراش ممدود في باحة المنزل إلى جانب البحرة ذات النافورة، دائماً كانت بثياب النوم الملونة والشفافة، ودائماً كانت تتقلب في هذا الفراش منتظرة أحداً ما لم يصدف أن شاهدته يدخل أبداً... هل فرغ هذا العالم يا ترى من الرجال؟ سمعت أخيراً أن المعارك بين جنود الحكومة والمعارضة تجري في المدينة القديمة ما أدى إلى تدمير عدد من البيوت هناك، هذا الخبر أرعبني وجعلني أتذكر زيارتي الأولى إلى حي بحسيتا قلب المدينة القديمة. بحسيتا هو الحي الذي زاره كل شاب مرة على الأقل في حياته للفرجة أو ليحقق الرجولة مع إحدى ساكناته. انه حي متشعب بطرقات ضيقة وبيوت لا تختلف عن بيوت المدينة التقليدية الأخرى وفي المساء يزدحم بالرواد والمتفرجين، وتجلس النساء في باحات البيوت أو في الطرقات بأقل ما يمكن من الثياب. هناك أيضاً من كان يبيع السندويشات والمشروبات المقوية التي كان يحتاجها الرجال بعد انتهائهم من علاقة هي على الأغلب سريعة ولكن ممتعة. هناك فقدت براءتي في السادسة عشرة حين أخذني أحد الأصدقاء المجربين إلى امرأة في الأربعين قال إنها تتفهم الشبان البكر وتساعدهم وتصبر عليهم. وفعلاً كان صادقاً فقد كانت متفهمة لوضعي الحرج. أيضاً تدفعني أخبار المعارك في سوق المدينة الأثري واحتراق الكثير من المحال فيه، إلى تذكر السوق فنحن في حلب نسمي هذه السوق ب «المْدينة» ونعتبرها عصب حياتنا. والمْدينة هي شبكة من الطرقات الضيقة تتوزع فيها الدكاكين على الجانبين، وإن كان الطريق بعرض مترين أو أقل. لكل مهنة سوق واكتشاف هذه الأسواق السبعة والثلاثين رحلة جميلة كنت أقوم بها في الأيام التي تسبق الأعياد. إنها طرقات بطول ثمانية كيلومترات وتشغل مساحة سبعة هكتارات مغطاة بسقوف مقنطرة تنيرها نوافذ في الأعلى تسقط منها أعمدة أشعة الشمس في شكل بديع، بينما يحتل جزءاً من هذه الأسواق أكثر من عشرين خاناً بتصاميم معمارية أخاذة كانت يوماً مراكز تجارية تستقبل القوافل التي تروح وتأتي على طريق الحرير بينما تعتبر اليوم المراكز التجارية والصناعية الأهم للاقتصاد السوري. اكتشاف هذه الأسواق كان متعة أيام الصبا، ففي كل خطوة فيها كنت اكتشف سراً جديداً مدهشاً، خصوصاً «سوق النسوان» المختصة بالألبسة النسائية من بدلات العرائس إلى ألبستهن الداخلية. وعادة ما تكون هذه السوق مزدحمة بالنساء، وبزيارة واحدة إلى السوق يمكن للزائر أن يحصل على فكرة رائعة عما ترتديه المرأة لزوجها ليظل يحبها، وفي إحدى الفيترينات شاهدت مرة قطعتي ثياب داخلية نسائية تومض إذا ما لمسهما الزوج. وقد أردت اكتشاف أسرار عوالم هذه الأسواق والخانات في قصة ممتعة، فكان مسلسل «خان الحرير» التلفزيوني الذي رصد حركة الأسواق والخانات وسجل مكانتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في فترة الاضطرابات السياسية في الخمسينات وحتى بداية الستينات. وقد صُور المسلسل في الأماكن الحقيقية، أي في الأسواق والخانات وطرقات وبيوت حلب القديمة التي تحدث الآن فيها معارك حربية تستخدم فيها القوات الحكومية الطائرات الحربية ومدافع المورتر... يا إلهي! والأمر لا يتوقف فقط على حجارة هذه المدينة المغرقة في التاريخ بل إن مجتمع المدينة يحتفظ بأسراره لنفسه، وقد عجز الرحالة الأجانب في الماضي عن اكتشاف أسرار هذه المدينة بالشكل الأمثل، فما قدموه لقرائهم لا يعدو كونه صورة للظاهر، أما الباطن فقد بقي بلا اكتشاف، خصوصاً مجتمع المرأة الحلبية والعلاقات النسائية، أقصد بالتحديد ظاهرة خفية تسمى «بنات العشرة». كل حلبي يعلم أو سمع يوماً عن بنات العشرة الواسعة الانتشار في المجتمع الحلبي، ولكي نفهم سر هذه الظاهرة علينا أن نعلم أن المجتمع الحلبي هو مجتمع يفصل بين المرأة والرجل ولكن المرأة طورت علاقتها ببنات جنسها إلى حدود المعاشرة العاطفية بسبب حاجتها إلى الحنان وإلى معاشرة اجتماعية يومية. الرجل يمنع زوجته أو بناته من الاتصال بالرجال مهما كانوا، بينما لا يعتبر اندماجهن بعلاقات نسائية معيباً، لذلك تطورت هذه الظاهرة إلى حدودها القصوى بموافقة الرجل أو على الأقل بصمْته. نحن نعلم مكانة الموسيقى في المدينة، إذ لا يخلو بيت من آلة العود حتى أن الآباء سمحوا لبناتهم بتعلم الموسيقى والغناء لإشباع الحاجة إلى السمر في البيوت. وقد استفادت النساء من براعتهن الموسيقية هذه في لقاءاتهن اليومية، خصوصاً بنات العشرة اللواتي اعتدن اللقاء في يوم محدد من الأسبوع حيث تجلس كل واحدة مع صديقتها التي تسميها «ابلايتها» متلاصقتين متخففتين من بعض الملابس، تغنيان وتغنجان وتوجهان كلمات الأغاني إلى بعضهما البعض، وتأتيان بحركات راقصة ولا يخلو الأمر من المداعبة والقبلات. كنت في الماضي سمعت كغيري عن هذه الظاهرة، وكنا على علم بأشهر بنات العشرة في المدينة وبأخبارهن، وبما أنني ككاتب ملتصق بهذه المدينة الرائعة، قررت كتابة رواية عن بنات العشرة سمّيتها «حالة شغف». وكعادة الكتاب، فبعد أن يقرروا الكتابة عن شيء معين يبدأون رحلة الدراسة والبحث، وبدأت أنا نفسي هذه الرحلة لكنني اكتشفت في بداية بحثي أن كل ما كتب في الماضي عن هذه الظاهرة ليس أكثر من عدة أسطر في «موسوعة حلب المقارنة» المتخصصة بالحالة اللغوية والثقافية والاجتماعية للمدينة، ولذلك وضعت خطة لمقابلة العشرات من بنات العشرة الشهيرات أو من كن من معارفي وقريباتي. كانت النتيجة مذهلة، فقد انفتحتُ على عالم عجيب من العلاقات النسائية عماده الأساسي الصداقة وحب المعاشرة والموسيقى والغناء والرقص والحب والغيرة والخيانة والملامسة وفي كثير من الأحيان السحاق. أرادت المرأة الحلبية أن تتمتع بحياتها وتشبعها عاطفياً في غياب زوجها لأكثر من أربع عشرة ساعة يومياً من دون أن تخونه مع أي رجل. والمهم أكثر أن الأزواج، في معظم الأحيان، كانوا على علم بمغامرات زوجاتهم العاطفية من دون أن يعترضوا، ما دام الأمر لا يشكل تهديداً للشرف ولا يقلل من تقبلهن لمداعباتهم في السرير ليلاً بعد عودتهم من أعمالهم. كل ما أتمناه الآن ألا تكون كلماتي هذه عن حلب شكلاً من أشكال النعي لمدينة ميتة. * روائي سوري من مدينة حلب