«قول لمرقص يتعدل ويلم روحه. ولا هو خلاص كبر ونسي نفسه. وإيه البنطلون اللي هو لابسه ده؟ خليه يقفل زرار قميصه إحنا مش في كباريه». هكذا أرسل خال والدة والدي رسالة له خلال جنازة أحد أقاربهم والتي ذهب إليها والدي لأداء واجب العزاء منفوش الشعر مرتدياً قميصاً حريرياً يُظهر الفانلة الداخلية البيضاء، مع بنطلون «شارلستون» موضة شباب السبعينات، ولم يمر على تخرجه في كلية الزراعة سوى شهور قليلة، وتمتلئ نفسه بزهو الشباب، وكانت جريمته التي اقترفها وأثارت حفيظة كبير العائلة - الخال الذي يخشاه الرجال والنساء ويعد كبيرهم والملقب ب «أبو الوفا» - هي جلوسه واضعاً قدماً فوق الأخرى في خيمة العزاء ويظهر كعب حذائه لامعاً. جاء هذا القريب خجلاً ومرتعداً في الوقت ذاته يخبر والدي همساً: «يا مرقص خالك بيقولك أقعد عدل ولا أنت نسيت نفسك. وإيه اللبس إللى أنت لابسه ده؟ لم الدور يا بني خللي الليلة تعدي على خير». يعود هذا الرجل الوديع إلى كرسيه المجاور للخال وهو المكلف عادة بتسليم رسائل الخال التحذيرية، حيث لا يجوز أن يقوم كبير العائلة لتوجيه التحذيرات لأفراد الأسرة من الشباب الأهوج. يتململ والدي في جلسته بعد أن وُجه له هذا النقد اللاذع وهو أكبر شباب الأسرة وحاصل على بكالوريوس، كما أنه يقضي فترة تجنيده في الجيش المصري، مما يضيف إلى رجولته أضعافها. يخرج والدي من خيمة العزاء، دقائق قليلة ويعود القريب ذاته الجالس بجوار الخال برسالة تحذيرية جديدة: «خالك بيقولك يعني هو أنت البيضة الوحيدة في العيلة دي إللى فقست دكر! ولا أنت عايز يقوم لك بنفسه يوريك مين الدكر؟ أنت عارف لو خالك قام. إيه يا بني هو أنا مش ورايا غيرك في الليلة دي؟». كان والدي هذه المرة يختبئ منزوياً لتدخين سيجارة في الخفاء، إلا أن شقاً في الخيمة كشفه للخال الذي ثار غضبه ولولا رهبة الموت والعزاء لكان توجه مباشرة لوالدي وصفعه صفعة تعيده إلى صوابه يرتج لها صوان العزاء كما يروي لي والدي مقهقهاً، ومؤكداً أنه لا تجوز مقاومة أو معاتبة هذا الخال مهما كان عمر من تعرض للصفعة، وعليه ألا يُبدي أي اعتراض، وأن يعترف ضمناً بأنه يستحق ما ناله من عقاب. «ارمِ العلبة وادهسها برجلك خالك بيقولك، وتعال اقعد زي الرجالة في العزاء، وحسابك بعدين». تلفَّت والدي كاللص الهارب يبحث عن ذلك الشق اللعين الذي كشفه للخال، بينما يفتش برعدة عن علبة السجائر وكأنها فُقدت في أغوار سرواله، أخرجها والدي وألقاها بعزم ودهسها مرات ومرات بقدمه وهو ما زال يتلفت، محاولاً مداراة ألم نفسه الممزقة على الخمسة قروش التي اقتطعها من راتبه الشهري نظير خدمته في الجيش والذي لا يتخطى الثلاثة جنيهات. عدل من هندامه، أغلق قميصه حتى الرقبة، حاول تسوية شعره، إلا أن أزمة بنطلونه «الشارلستون» لم يكن لها حلول متاحة في هذه اللحظة الراهنة. عاد وجلس بين المُعزين، ينظر إلى الأرض متجنباً رفع عينيه صوب عين الخال التي سوف تكشف أفكاره التي كانت تدور حينها، وربما تعرَّض للركل وليس للصفع لقاء تفكيره بهذه الطريقة تجاه تعرضه لمثل هذه المهانة وهو جندي يحمل سلاحاً. رحل الخال الذي لم نره وتبقى لنا من ذكراه، نهر والدنا لنا ذكوراً وإناثاً بالعبارة ذاتها: «يعني هو أنت البيضة الوحيدة في العيلة دي إللى فقست دكر؟».