تتشابك الاهتمامات ووسائط الإبداع في تجربة الفنان عز الدين نجيب، من التشكيل إلى النقد وممارسة الأدب إلى العمل العام الذي استنفد من جهده وطاقته الكثير على مدار سنوات طويلة. كان لا يزال طالباً في الفنون الجميلة حين أصدر مجموعته القصصية الأولى «عيش وملح» في عام 1960، فتحقق في الأدب قبل أن يتحقق كفنان تشكيلي. يقول عز الدين نجيب: تعرف إلي الناس كأديب قبل أن يعرفوني كفنان تشكيلي، وطغت ميولي الأدبية على ميولي الفنية لسنوات بعد التخرج، فقد أصدرت مجموعتي القصصية الثانية عام 1968 تحت عنوان «المثلث الفيروزي»، وفي عام 1975 صدرت لي مجموعة قصصية أخرى بعنوان «أغنية الدمية» تم نشرها في دمشق، ثم أعيد نشرها في القاهرة تحت الاسم نفسه مع إضافة قصص أخرى. وطوال هذه الفترة كانت الكتابة الأدبية تسير جنباً إلى جنب مع الرسم، أمارسهما معاً، وتحول الأمر في داخلي إلى ما يشبه الصراع بين الكتابة واللوحة، كل منهما يدفعني في اتجاه مختلف، وانتهى لصالح اللوحة، خصوصاً أنني بدأت ممارسة نقد الفن في ذلك الوقت، وهو ما أشبعني نسبياً في ما يخص الكتابة عموماً، لكنني حتى اليوم، ما زال بداخلي جوع شديد نحو الكتابة الأدبية، وما زلت أشعر بالذنب على قهري لذلك الجانب وقمعه. أحاول مد حبل التواصل مع الأدب من جديد، وأعكف الآن على كتابة رواية، لعلها تظهر للنور خلال الأشهر المقبلة، وهي المرة الأولى التي أخوض فيها تجربة الكتابة الروائية. كيف انعكست نشأتك القروية على تجربتك الإبداعية؟ - أنا من قرية «مشتول السوق»، وهي إحدى قرى محافظة الشرقية في دلتا مصر، نشأت هناك في عائلة كانت تعمل في التعليم، ووالدي كان معلماً للغة العربية ثم ناظراً، وكان البيت يحتوي على مكتبة صغيرة تضم نماذج من الآداب الكلاسيكية، كان وجود هذه المكتبة في البيت كافياً ليعطيني قناعة مبكرة أن القراءة هي جزء ضروري وطبيعي في حياة الإنسان. ومن ناحية أخرى ارتبطتُ جيداً من طفولتي بالأماكن، فكل مكان وكل منطقة وكل شارع أو حارة لها ذكرى خاصة، ترجمها ذهني في ما بعد إلى مجموعة من الصور كنت أستدعيها في كثير من الأحيان في لوحاتي أو كتاباتي، فحين أقدمت على تنفيذ مشروع التخرج في الفنون الجميلة عام 1962 كان عن القرية. ومجموعة قصص «أيام العز» التي هي أول مجموعة قصصية منفردة لي كانت كلها حول حكايات الساقية وجلسات السمر قرب الترع، فالقرية أمدتني بمخزون كبير من الصور ومن الطاقة الإبداعية التي مثلت حافزاً للكثير من أعمالي التشكيلية والأدبية. كيف بدأت علاقتك بالرسم؟ - بدأت في المدرسة الابتدائية، بتشجيع من مدرّس التربية الفنية. كان هذا المدرّس يعلق رسوماتي على جدران الفصل وممرات المدرسة، أعطاني هذا الأمر نوعاً من الإحساس بالتميز والفخر، وترسب في داخلي منذ تلك المرحلة إحساس بأني خلقت لكي أكون فناناً. وفي المرحلة الثانوية كان هناك مدرّس آخر هو «مختار طبوزادة». هذا الرجل كان معجوناً بالفن، فكان يصحبنا خارج المدرسة للرسم من الطبيعة مباشرة، وعلّمنا كيف نصنع التكوين الفني، وكانت دروسه هي أول الدروس الحقيقية في فن الرسم بالنسبة لي، وهو أيضاً الذي جعلني متمسكاً بفكرة الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، رغم اعتراض الأسرة، فحين حصلت على الثانوية العامة، واقترحت على والدي أن ألتحق بالفنون الجميلة، أبدى تحفظه على هذا الاختيار، وكان مصدر الدفاع لدي متمثلاً في صورة هذا المدرّس، بشخصيته وسلوكه وقيمه وتفانيه وإخلاصه لفنه وعمله. كيف كانت علاقتك بالقرية بعد ارتحالك إلى القاهرة والتحاقك بالفنون الجميلة؟ - كان عملي أثناء الدراسة مرتبطاً دائماً بالقرية، فإجازاتي الصيفية كنت أمضيها هناك، أرسم الفلاحين والبيوت، كما أن الصور التي كنت أختزنها من زمن طفولتي بدأت تخرج في ذلك الوقت، أرسمها في اسكتشات وأعرضها على الأساتذة في الكلية، وهو ما شجعني في النهاية على أن يكون مشروع تخرجي عن القرية. لا بد من أن وجودك في القاهرة ساهم في تشكيل وعيك المبكر؟ - وأنا في القاهرة كنت حريصاً على حضور الندوات الثقافية. كنت أريد أن أرى، وأشارك، وأنتقد، وكان أول اتصال لي بالجماعات اليسارية، كنت كغيري من الطلاب المتوسطي الحال الذين يجتمعون في سكن مشترك، فكانت شقة العجوزة التي كنا نسميها مستعمرة العجوزة. هذه الشقة كانت تضم مجموعة من الشخصيات نادراً ما تجتمع مع بعضها، معظم من كان فيها أصبحوا فنانين وأدباء وشعراء، منهم عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وأمل دنقل، والكاتب السياسي خليل كلفت والناقد الراحل سيد خميس، ومن التشكيليين، محمود بقشيش، وجميل شفيق، والدسوقي فهمي، ونبيل تاج، ومحيي الدين اللباد، وعدلي رزق الله. لم نكن جميعاً نقيم في تلك الشقة، لكننا كنا نلتقي فيها في شكل يومي. أتاح هذا التجمع نوعاً من تبادل الأفكار والآراء، وكانت النقاشات السياسية تتصاعد أحياناً إلى حد الخلافات الحادة أو الشجار. كنت أذهب إلى هذه الشقة في شكل يومي رغم إقامتي مع آخرين في إحدى العوامات التي كانت منتشرة على النيل، وهي العوامة نفسها التي كتب فيها الأديب محمود دياب روايته «ظلال في الجانب الآخر»، والتي تحولت في ما بعد إلى فيلم سينمائي. للفنان عز الدين نجيب تجربة ثرية ومثمرة في العمل مع قصور الثقافة فترة الستينات، وكانت وقتها فكرة وليدة وطموحة، إذ شارك في تأسيس عدد من قصور الثقافة في الأقاليم محاولاً مد حبال التواصل مع سكان الأقاليم البعيدة من طريق الثقافة، مدافعاً في الوقت نفسه عن حقهم في المعرفة والتعبير، غير أن تجربته مع قصور الثقافة، رغم ما انطوت عليه من نجاحات، لم تخل أيضاً من مرارة وصدام. يقول عز الدين نجيب: «بعد انتهاء الدراسة في الفنون الجميلة توجهت إلى مدينة الأقصر للإقامة هناك في مراسم الأقصر، وهي منحة لمدة عامين كانت تقدمها الدولة لأوائل الخريجين في الفنون الجميلة، لكنني لم أستمر هناك سوى ستة أشهر إذ تم استدعائي لاستلام عملي في وزارة الثقافة، وجاء أول تعييني في قصر الحرية في الإسكندرية كمسؤول عن النشاط التشكيلي هناك، لكنني لم أستسغ المكان فطلبت الانتقال إلى مكان آخر، وكان هناك قصر جديد تحت الإنشاء في حي الأنفوشي، وهو أحد الأحياء الشعبية في مدينة الإسكندرية، كان القصر عبارة عن جدران لم يكتمل بناؤها، وأمكن ترتيب حجرة داخل القصر لإقامتي. وجودي في إحدى حجرات القصر أتاح لي الإشراف على كل التجهيزات في بدايتها، فأنشأت قاعة للعرض ومسرحاً وقاعتين للمراسم. هذه الفترة كانت مواكبة لتخريج أول دفعة للفنون الجميلة بالإسكندرية، فأصبح مرسم الأنفوشي ظهيراً لكلية الفنون الجميلة، يأتي إليه الطلاب للعمل في شكل حر بعيداً من أجواء الكلية، وأذكر من بين هؤلاء الفنان عصمت داوستاشي، وتعرفت هناك إلى سيف وانلي والفنان حامد عويس، كما تعرفت أيضاً إلى أمل دنقل، والذي كان زائراً دائماً للقصر. بعد تجربتي في الإسكندرية، توجهت إلى بور سعيد كمدير لقصر الثقافة هناك، وكان لا يزال أيضاً تحت الإنشاء، وكانت أولى تجاربي في الإشراف على إحدى الفرق المسرحية، والتي كان من بين أعضائها الفنان محمود ياسين، وكان لا يزال طالباً في كلية الحقوق. تعد تجربتك في محافظة كفر الشيخ أحد أبرز تجاربك مع قصور الثقافة، وهي التجربة التي قمت بتسجيلها في كتاب «الصامتون»، فما الذي يميز هذه التجربة عن غيرها؟ - بعد عامين من وجودي في بورسعيد شعرت بأن ليس هناك ما أقدمه فانتقلت إلى أحد قصور الثقافة في القاهرة، وكان يرأس قصور الثقافة أو الثقافة الجماهيرية وقتها الكاتب سعد كامل، والذي فوجئت بزيارته ذات يوم من دون أن يعلن عن نفسه، وأخذ يسألني عن رأيي في العمل بقصور الثقافة، فهاجمت الطريقة التي تدار بها المؤسسة الثقافية، وكيف أنها لا تقوم بدورها على الوجه الأمثل. لكن الرجل أبدى تفهماً وطلب مني إحياء قصر ثقافة كفر الشيخ. كانت مهمة في غاية الصعوبة. كان عليّ أولاً البحث عن فريق عمل ووجدت ضالتي في مجموعة من المبدعين الشباب من أبناء كفر الشيخ، وكونت من بينهم فرقة مسرحية، وذهبت إلى المحافظ وكان وقتها المؤرخ جمال حماد وطلبت منه المساعدة في إيجاد مكان بديل يتناسب مع دور القصر، فوفر لنا مكاناً آخر أكثر اتساعاً، وكنا نتجول في قافلة بين القرى بسيارة قديمة. وأصبح قصر الثقافة في كفر الشيخ يموج بالحركة والنشاط من عروض فنية ولقاءات ثقافية وندوات تردد عليها شخصيات كثيرة منهم سيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي وجورج البهجوري، هكذا أصبح قصر الثقافة قبلة للكثير من الفاعليات الثقافية التي اجتذبت أهالي المدينة والقرى المجاورة. لم تكن تجربة كفر الشيخ كلها مشرقة، بل كانت هناك صراعات مريرة ومؤسفة، ففي مواجهة قصر الثقافة كان هناك مبنى الدعوة والفكر للاتحاد الاشتراكي، وعلى بعد أمتار كان هناك مبنى الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان الاثنان يصبان على قصر الثقافة جام غضبهم، لأنهما كانا يعتبرانه تجمعاً لليساريين، وظل الصراع قائماً حتى استطاعا في النهاية إغلاق القصر ووقف نشاطه. في إبداعاتك ارتباط واضح بالموروث، فماذا يعني التراث بالنسبة لك؟ - التراث عندي لا يعني الماضي، وهو أمر أحب أن أؤكده وأقوله، فهناك من ينظرون إلى المهتمين بالتراث على أنهم أناس ماضويون، أو رجعيون، لكنني على قناعة تامة بأن التراث يحمل مفاتيح المستقبل. وفي ما يخص الفن، فإن مفهوم ما بعد الحداثة يعني العودة إلى البيئات الشعبية، والمنتج التراثي الذي حققته الجماعات البشرية، ففكرة «الأنستليشن» أو العرض الحي - على سبيل المثل، هي أحد أبرز أشكال فنون ما بعد الحداثة، والتي ظهرت أولاً في الشارع كشكل من أشكال التمرد على اللوحة التقليدية القابلة للبيع، فكان الفنانون يعرضون فنونهم في الهواء الطلق، ثم يقومون بهدمها بعد عرضها حتى لا يتحول الفن إلى أداة في يد الرأسمالية، وفي فنون ما بعد الحداثة أيضاً هناك اتجاه قوي ضد فكرة المتاحف وقاعات العرض، لأنهم يرون أن الفن للناس، والناس المستهدفة لا تذهب إلى المتاحف أو قاعات العرض، وكل هذه الأمور تراها متحققة بوضوح في الفنون التراثية التي أبدعتها الجماعات البشرية وأضافت إليها على مر السنوات، فهي فنون يتم توظيفها في سياق جمالي ووظيفي معين، ولا يتم تحنيطها أو حبسها بين جدران المتاحف.