14 شباط 2010... انصرمت خمس سنوات لبنانية، وفي كل منها حمل هذا التاريخ صوراً مختلفة حفلت بها الأشهر التي فصلته عن قرينه في العام المنقضي. هذا العام يُطل ذاك التاريخ من دون شبيهه، بالاسم على الأقل، أي «14 آذار»، وهو ما أطلق على حركة استقلالية لبنانية بدت واسعة وضامة أطرافاً لم يسبق في التاريخ اللبناني ان ائتلفت في حركة واحدة، من دون ان ننسى التذكير بأن الحركة المُشار إليها استبعدت فئات واسعة في المجتمع اللبناني، أو على الأقل لم تسع الى ضمها. لا «14 آذار» هذه السنة، وذلك ليس من باب الحنق على رموزها وجماعاتها، ولا من باب الغضب مما آلت اليه أوضاعها. لا «14 آذار» لأنه لا مهمة لهذه الجماعة اليوم! في 14 شباط 2009 كان الموعد الأخير، وكانت المهمة الأخيرة، أي الانتخابات النيابية التي جرت بعد ثلاثة أشهر من اللقاء في ساحة الشهداء. أما اليوم فما هي المهمة المطروحة على اللقاء؟ وبما ان الجواب ليس بديهياً، وهو ان وُجد يبقى جواباً ذهنياً غير مبني على وقائع وافتراضات محددة، فإن اللقاء لن يتم، أو انه سيتم ولكن من دون أي مضمون سياسي. وان تقتصر وظيفته على الجانب المعنوي فذلك لن يعني الا أننا أمام مشهد درامي لا جوهر سياسياً له. فلنستعرض أوضاع الأطراف التي شكلت مشهد ساحة الشهداء في الموعد الأخير (14 شباط 2009). ولنبدأ بمن خرجوا من الساحة على نحو غير ملتبس، أي وليد جنبلاط ووراءه الطائفة الدرزية، فهؤلاء علينا ان لا نتوقع مشاركتهم، او ان تقتصر المشاركة على مروان حمادة الذي صارت حاله في طائفته كحال المفتي علي الأمين في الطائفة الشيعية. أما حزب الكتائب فيبدو انه متنازع بين رغبتي الوالد والإبن، الأول يعتقد بضرورة الحفاظ على علاقة مع هذا الماضي القريب الذي اسمه «14 آذار» فيما الثاني يعتقد بأن ذلك صار عبئاً على الحزب وان العودة الى الموقع المسيحي التقليدي المتمثل في انحسار الهموم إلى جانبها العصبوي مُجدٍ أكثر، ويبدو ان الأول محق على مستوى المعنى والثاني محق على مستوى المبنى، ولا ندري من سينتصر، مع أرجحية للابن على الأب كما حال البشر منذ وجدوا. القوات اللبنانية تبدو الطرف الأكثر حماسة للنزول الى ساحة الشهداء في 14 شباط 2010. ف «14 آذار» شكلت مظلة فعلية للقوات تقيها يتماً كان محدقاً بها جراء موقعها الملتبس في المعادلة المسيحية. فهي استعانت ب «14 آذار» لتتخفف من ماضٍ مضى بالنسبة للطوائف الأخرى لكنه لم يمض بالنسبة للمسيحيين. و «14 آذار» اليوم تُشكل حاجة للقوات في ظل عدم إيجادها سبيلاً آخر تُظهر فيه طموحاتها وتصوراتها. والقوات، بهذا المعنى، أكثر إخلاصاً من غيرها لما تبقى من الحركة الاستقلالية المتداعية، وبقاؤها يشكل مصلحة فعلية لها. تيار المستقبل يُكابد ما لا يُحصى من الانفعالات. فرئيسه سعد الحريري صار رئيساً للحكومة، وهي النتيجة الطبيعية للفوز في الانتخابات النيابية، وبما ان التيار الذي أوصل الحريري الى موقعه الجديد يُدرك طبيعة المهمة الجديدة لرئيسه، فهو غير قادر على الانفعال ضده في حركته الجديدة، لكنه غير قادر في الوقت ذاته على الانفعال معه. الواقعية التقليدية للنخب السنية في لبنان تجد نفسها منحازة الى التسوية، لكن العواطف المنبثقة عن وقائع الأعوام الخمسة المنصرمة تضع السنّة في لبنان في موقع عاطفي أقرب الى القوات اللبنانية مما الى وليد جنبلاط. هذا على صعيد وصف الحال الراهنة للكتل الطائفية الأربع التي شكلت متن الحشد في ساحة الشهداء في 14 شباط 2009، أما على صعيد انتفاء المهمة، وهو ما يُضاعف التشاؤم بحال «14 آذار»، فلا يبدو ان ثمة حداً أدنى من التوافق على المهمة، باستثناء القول بأن النزول الى ساحة الشهداء هذا العام هدفه حماية الانجازات، والكل يعرف ان الطوائف تحتاج في اندفاعها الى ما هو أقوى من هذه المهمة كي تندفع. تحتاج أولاً الى خصم والى شعور بأن ثمة من يُهددها، والى رغبة في حجز موقع لها على مائدة ما. وهذه المهمات بعضها تحقق وبعضها ذوى، والقليل القليل المتبقي لا تعوزه مشاركة في 14 شباط. لا بد من العودة الى المربع الأول، أي التواضع في تفسير الحدث الأول الذي بنينا على أساسه أوهامنا الجميلة. فلنتأمل في الخلل الذي حال دون ان يمتد الحدث المؤسس على المساحة الزمنية التي تفصلنا عنه اليوم. فقد قرر لبنانيون مسالمون في 14 آذار 2005 النزول الى شوارع عاصمتهم والمطالبة بإسقاط حكومتهم وانسحاب الجيش السوري من بلدهم. هكذا وببساطة نادرة ومن دون حادث عنف واحد. هذا الجانب المشرق يجب ان لا يُغفل حقيقة ان لبنانيين آخرين بقوا في منازلهم في ذلك النهار، وهؤلاء انتابتهم مشاعر غريبة جاء من يستثمرها. وفي مقابل مشهد الانقسام هذا فوَّض النازلون الى الساحة أمرهم الى قادة طائفيين، عاجزين عن المواجهة وعن مخاطبة من بقي في المنازل، أو هم غير راغبين في ذلك. هذا الندب لا يجدي نفعاً اليوم، فالمشهد السياسي اللبناني الراهن منعقد على نحو مختلف تماماً عن ذلك الذي عقد في 2005 وفي السنوات التي أعقبته. الواقعية تقتضي الانفكاك: قطيع عليه مواكبة المسارات المستجدة، وما تبقى من أفراد عليهم التفكير في مستقبلهم في ضوء حلو التجربة ومرارتها. ومن فوَّض وليد جنبلاط التحدث باسمه في ساحة الشهداء طوال 4 سنوات عليه أن يدفع الثمن وان يُعلِم أولاده ان لحظة ايجابية في حياة مجتمع لا تصنع وحدها ربيعاً... الا اذا التقطها صانع ماهر يفكر بما هو أكثر من مستقبل طائفته.