صحيح أن عصر العبودية انقضى زمانه إلا أن البعض من أبنائنا وللأسف مازال يمارسه مع خدمه، فيستقدمهم وكأنه اشتراهم بماله، ويستعملهم كمماليك عنده، يسلبهم أدنى حقوقهم المعيشية وكرامتهم الإنسانية، ولنتأمل بعض هذه المظاهر السلبية في مجتمعنا. تصحو الخادمة من الصباح الباكر إلى ساعة متأخرة من الليل من دون أن تأخذ ساعة راحة بين هذه الساعات المزحومة بالعمل وصراخ ربة البيت التي لا تحب أن تتحرك من مكانها، ولا تحسن إلا رفع الصوت، لإصدار الأوامر الدالة على الجهل العميق بمعاني الإنسانية، ومع ساعات العمل الطويلة تحرم المسكينة من الطعام الذي تكلفت صنعه، وتقدم لها بقاياه التي لا تصلح إلا للحيوان، وتحرم من أكل أنواع منه لارتفاع ثمنها. وأما غرفتها الخاصة - إن صح تسميتها غرفة - فهي أقرب ما تكون إلى مستودع لما ضاق عليه البيت واتسع له مكان الخادمة، ليبقى لها منة وفضلاً، مكان لا يأخذ إلا موضع جسدها، وما عليك إلا أن تنظر إلى غرف السائقين في بيوتنا الواسعة لتعرف ثقافة الاستعباد في زمن الحرية، وأما اللباس فليس لها إلا ما انتهت مدة صلاحيته وعليها أن تشكر الله على الصدقة التي لن يأخذها صاحبها لو قدمت له إلا أن يغمض فيها، وتأمل الحقوق المعنوية التي سلبوها، فلا يتحدث معهم إلا برفع الصوت ونظرة الترفع والفوقية، وأعراضهم مستباحة فهم فاكهة المجلس في التفكه والسخرية، وما رسائل البلوتوث إلا أكبر دليل على ذلك... وأشياء أخرى تضيق مساحة المقال عن الإتيان عليها. إن ثقافة تعاملنا مع الخدم لها منطلقات إسلامية وإنسانية لا يتصور أن يتخلى الإنسان عنها فضلاً عن المسلم، فهم بشر أرادوا كسب اللقمة الحلال، فلا بد من إيصالها لهم بدل أن يتحولوا إلى أدوات شر تريد أن تقصف المجتمع، وعلينا أن نعي ثقافة الحقوق والواجبات التي رسمها المنهج الإسلامي في التعامل معهم. تأمل مع بعض النصوص الشرعية التي تمثل ثقافة المسلم فيمن جعلهم الله تحت يده، لقد رأى المحرور بن سويد رضي الله عنه أبا ذر بالربذة وعليه برد غليظ وعلى غلامه مثله قال: فقال القوم: يا أبا ذر لو كنت أخذت البرد من غلامك فجعلته مع هذا حلة وكسوت غلامك ثوباً غيره؟ قال: فقال أبو ذر: أين كنت؟ سببت رجلاً وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر إنك أمرؤ فيك جاهلية، ثم قال: (هم إخوتكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه). وعن معاوية بن سويد بن مقرن قال: لطمت مولى لنا، فدعاه أبي ودعاني فقال له: اقتص منه، فإنا معشر بني مقرن كنا سبعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لنا إلا خادمة، فلطمها رجل منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اعتقوها. قالوا: ليس لنا خادم غيرها، قال: فلتخدمهم حتى يستغنوا فإذا استغنوا فليعتقوها). ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن العشرة فلم يرو عنه أنه ضرب خادماً ولا امرأة ولا رجلاً إلا أن يكون جهاداً في سبيل الله، وعن أنس رضي الله عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء لم أصنعه لمَ لم تصنعه؟ وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود. فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. فقلت يا رسول الله: هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار). وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: كم أعفو عن الخادم؟ قال: كل يوم سبعين مرة. إن هذه النصوص وغيرها مما تملأه بطون كتب السنة من الأحاديث الصحيحة هي المنطلقات التي يسلكها المسلم، والقيم التي يقتنع بها، والتي لابد أن تترجم من خطب ومحاضرات وكتب ومقالات إلى واقع حياة، ومتى يكون للخدم وثيقة ولائحة واضحة تلزم من غاب دينه وإنسانيته أن يأتي بها. ومتى يعي الجميع أن الله إذا ملك أحداً شيئاً فاستبد به وأساء، سلبه ما ملك وأعد له سوء المنقلب، وإلى لقاء في مقال يتحدث عن حقوق الكفيل حتى ننعم بمجتمع ينال كل فرد فيه حقه ويؤدي واجبه. * داعية وأكاديمية سعودية.