لا يؤشر تدخل الرئيس المصري الأخير ل»فرملة» تطبيق قانون الضرائب العقارية إلى ما يمكن تسميته فقط ب»تضارب السلطات» العميق في قلب القرار السياسي. كذلك لا يمكن اعتباره تقسيما للعمل يعطي صفة «الأشرار» للأجهزة التنفيذية ويخصص «الحكمة» لمراجعات السيد الرئيس، بل هو يشير في الأساس إلى غموض الصراع بين الأجهزة الفاعلة في هذا القرار، فبين حملة إعلانية إرشادية ضخمة وتصريحات تهديدية للمواطنين في حالة عدم تسجيل عقاراتهم، وبين تزجية الرئيس لمراعاة أوضاع الفقراء في تطبيق مثل هذا القانون، تظهر إرادتان في الصراع على الثروة، الأولى يمثلها وزير المال صاحب المبادرات والقوانين المتتالية التي تسعى ل»جباية» الماء والهواء المصري بالمنطق الرأسمالي التقليدي، والثانية أصوات ناصحة من الدائرة المقربة للرئيس تتحسس التكلفة السياسية الباهظة لنظام يدخل معركة انتخابات برلمانية ورئاسية حاسمة خلال العامين المقبلين. الغائب غير الحاضر في هذا الصراع هو المواطن، الذي هو عنوان التهديد في طرف والمراعى وضعه من طرف آخر، على الرغم من اقتراب الدولة هنا من مرتكز حياتي مهم هو السكن، أو ما يعتبره علماء اجتماع الشأن المصري جزءاً من «الستر» في معادلة الحكمة القديمة «الستر والصحة». الغائب هنا مغيب لا من طرف المدعين تمثيله بل أيضا ممن يدعون «النضال باسمه». فلم نشهد حراكاً سياسياً فاعلاً من قوى كالإخوان المسلمين أو شراذم اليسار والقوميين للحديث في هذا الشأن الطبقي بإمتياز، بل وتنشغل تلك القوى بالأسئلة الإفتراضية عن مستقبل مجمل النظام السياسي بدلاً من التكاتف حول مطلب واقعي جلل ربما كان مبتدءاً مهماً في تراكم وعيها النضالي. الأرض ما زالت إذاً هي محور الصراع في مصر، فبعد سنوات من البيع العلني والسري لفضاءات الدولة، وما صاحب ذلك من تراكم رأسمالي عنيف لصالح فئة محدودة من كبار تجار الأراضي، وبعد أن استفاد الأخيرون من فوارق الأسعار (بين التخصيص وإعادة البيع أرضاً أو عقاراً) تعود الدولة نفسها لتدوير أرباحها على حساب صغار المستهلكين، ولو صحت التقارير الإخبارية (أسبوعية «اليوم السابع» المستقلة) التي فسرت «مراجعات الرئيس» بثورة قادها كبار رجال الأعمال في مجال السياحة، والذين حذروا من تطبيق القانون على منشآتهم المترنحة في عام الأزمة المالية العالمية الثاني، لو صح ما قيل عن تشكيل فريق رئاسي استقصائي حذر من نتائج تطبيق تلك الضريبة على جميع شرائح المجتمع (كما حاولت الصحيفة إبداء التوازن في تقريرها)، لظهر بما لا يدع مجالاً للشك، أن هذا «المفعول باسمه» / المواطن، ليس آخر من يُهتم بأمره فقط بل هو مجرد «حجة» لا أكثر في ذلك الصراع. تقول الدولة إن حصر وتحصيل الضريبة العقارية مفيد في توجيه خطط التنمية للمناطق الأكثر احتياجاً، وإن الموارد المفترضة ستوجه إلى دعم البنية الأساسية وترشيد الهدر في المرافق العامة، وهي الحجة نفسها التي تم باسمها بيع جزء كبير من أصول الدولة من العصر الناصري منذ بدء سياسات الإصلاح الاقتصادي أوائل التسعينات. المدهش في هذا الخطاب المكرر عن إعادة توزيع عبء «البنية الأساسية» هو افتقاره للمنطق، فالدولة التي تطلق من آن الى آخر صراخها المدوي والمحذر من مغبة الزيادة السكانية ومتطلباتها، أنهت تماماً أصول الملكية العامة وحررت أسعار الخدمات والسلع فيما هي تردد بين «الهرولة» و»الفرملة» خطاباً مزدوج المعنى، يجمع بين «الشوق للرأسمالية المنفلتة العقال» وبين متطلبات «مراعاة الأوضاع الاجتماعية» التي أضحت مخدرا سياسيا مجلوبا بالكامل من عصر رأسمالية الدولة الناصرية، وهو مخدر يفتقد إلى تصديق متعاطيه، بينما يأس المصريين من أخلاقية تلك الاعتبارات يرقى الى مستوى الإيمان، فلماذا تصر الدولة على هذا الخطاب؟ الجهاز التنفيذي لتطبيق الضريبة بدأ مسيرته بالشرائح الأكثر غنى في مناطق المجتمعات المسيّجة بمدن النخب الجديدة ، بل بشرت الحملة الإعلانية للقانون الفقراء الذين لا تتجاوز قيمة عقاراتهم النصف مليون جنيه بالإعفاء من الضريبة، وهو ما يعني ضمنيا –ووفقا لأسعار سوق العقارات المرتفعة أصلا- استهداف شرائح واسعة من الطبقة الوسطى المالكة أو الشاغلة لعقارات لم تلعب دوراً في تسعيرها من الأساس، لا بكونهم قوى شرائية حاكمة، ولا بكونهم مستهلكين ذوي حقوق. العاملون في الشأن الاقتصادي العقاري يعرفون تماما لصالح من حصلت فوائض قيمة الاستثمار في هذا المجال، فبالإضافة إلى أسعار الأرض الفضاء هناك عناصر صناعة البناء مثل الحديد والإسمنت، وهما السلعتان الأكثر جدلا في مستوى احتكاريتهما السوقية في مصر. والمعلوم ضمنيا من المستفيد بالتلاعب في أسعارهما داخليا. في ما يخص الشأن العقاري، أي آخر مواطن الثروة البدائية للمواطن، نحن أمام معادلة اقتصادية غامضة المداخل لكننا نتعامل فقط مع مخارجها كحقائق واجبة الإلزام. وفي حين تصدر التطمينات للشرائح الأكثر فقراً، أو يجري الحديث باسم مصالحها، تتلقى الطبقة الوسطى المشكوك أصلا في تماسكها المعيشي طعنة نافذة في موطن سترها المتبقي، فإذا ما أضيف إلى ذلك البعد الديموغرافي لعمليات الإزاحة الطبقية من فضاء المدينة نحو نطاقها العشوائي الخارجي، وإذا ما وضع في الاعتبار غموض أسس تقييم أسعار العقارات بل انفراد جهات حكومية من دون رقابة شعبية بهذا التقييم، تتأكد فرضية أن هذا الصراع لا يخرج عن مجمل قانون «ما يجري في بر مصر الآن» من حيث العمق المصحوب بغفلة وعدم شفافية متأصل، من حيث هو شأن لا يخص فقط «المفعول بهم» بل لا يرقى إلى مستوى انشغال «المعنيين» بتطبيقه في الظلام، أو هو قبل ذلك كله بعض من افتقاد مجمل الشأن المصري إلى تجويد المبررات والأفعال.