لدى انتشار خبر سقوط الطائرة الأثيوبية على مقربة من الشاطئ اللبناني بعيد إقلاعها بثلاث دقائق، سارع البعض وانطلاقاً من نظرية المؤامرة الى طرح فرضية تعرض الطائرة لعمل تخريبي. لكن سرعان ما تم نفي ذلك ليتم تركيز الاهتمامات والتحقيقات على الأسباب الكامنة وراء هذه الكارثة التي مست مشاعر اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، وهو الأمر الذي أكد من جديد كيف توحّد الكوارث الشعب اللبناني وكيف تجمعه الأحزان، وكم تفرقه السياسات والعصبيات والاصطفافات. وهذا الشعور الذي ساور البعض من وجود عمل إرهابي أو تخريبي يعكس تنامي الهواجس والكوابيس جراء الإرهاب الذي تقع المنطقة والعالم فريسة له. وتزامن هذا الحادث المأسوي مع انعقاد مؤتمر لندن للاتفاق على استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب والمتمركز هذه الأيام في اليمن حيث برز فجأة أن خطوط الدفاع عن الأمن القومي الأميركي تقف عند العاصمة صنعاء أو في الحديدة أو في أي مكان داخل حدود اليمن المترامية الأطراف. وانطلاقاً من مؤتمر لندن الذي قرر تقديم الدعم المالي لليمن، بعض النقاط المحورية التي يجب الوقوف عندها: إن مواجهة الإرهاب لم تعد عملية أمنية فحسب بل هي مرتبطة بمناخ عام يجد الإرهاب فيه «التربة الصالحة» لقيامها. وفي هذا المجال تقول وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون «إن النزاع القائم في اليمن له تداعيات خارج حدود اليمن ولكن يجب أن يحل داخل اليمن». وكشفت كلينتون أن بلادها خصصت مبلغ 120 مليون دولار خلال السنوات الثلاث الماضية لكنها أضافت «إن نجاح هذا الاستثمار يعتمد على قدرة اليمن على اتخاذ قرارات صعبة ضرورية لتحسين قدرته على الحكم وإصلاح اقتصاده وحماية حقوق الإنسان ومكافحة الفساد وخلق أجواء أفضل للأعمال والاستثمارات». وهذا الأمر يعني بوضوح مدى ترابط مكافحة الإرهاب وعمليات التنمية في الداخل إضافة الى الخطوات العسكرية والأمنية. ويشير قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال ديفيد بترايوس الى ضرورة قيام شراكة بين الجانبين الأميركي واليمني ل «مواجهة العناصر المتطرفة والمرتبطة بتنظيم «القاعدة». وعندما يتوغل في التفاصيل يكشف عن وجود «ثلاث وحدات من الجيش الأميركي متمركزة في اليمن وهذا هو التحدي الذي نركز عليه حالياً». هل من دور للولايات المتحدة في مواجهة الحوثيين في شمال اليمن أو الانفصاليين في جنوبه؟ يرد الجنرال بترايوس: «نحن نركز على كيفية مواجهة المتطرفين» (متحاشياً الحديث عن أي تدخل عسكري أميركي مباشر). ويضيف: «لكي نكون منصفين علينا أن نساعد اليمن في التنمية ونمنع العناصر التي قد تصبح متطرفة من التوجه الى التطرف بسبب مشاكل اقتصادية وتنموية». ويشير الى أن دولاً أخرى في المطلق مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة مهتمة باليمن ولديها مصلحة كبيرة في دعم الرئيس علي عبدالله صالح. وبهذا يصبح الرئيس اليمني خط الدفاع عن الأمن الوطني الأميركي. وقد اتضح في الآونة الأخيرة وصول 36 أميركياً الى اليمن والهدف المعلن لزيارتهم كان تعلم اللغة العربية فاذا بهم ينخرطون في أعمال التدرب على الإرهاب في اليمن وخارج اليمن. وإذا ما خرجنا من اليمن لتفقد أحوال المنطقة فماذا نرى؟ يرسم الجنرال بترايوس صورة الموقف على الشكل الآتي: «إن أفغانستان ستكون الحرب الأطول، وفي العراق فإن تطورات الأسابيع الأخيرة وما يتصل بتنظيم العملية الانتخابية واستبعاد البعض، كلها تطورات لا توحي بالطمأنينة، وهي تضعف حتماً عملية المصالحة مع كل الاطياف العراقية». إذن هذه الصورة القائمة للوضع في المنطقة، حيث تزداد قتامة وتعقيداً إذا ما عرضنا لآخر مستجدات السلام المتعثر، أو ما يطلق عليه اصطلاح «سلام الشرق الأوسط». والمفاجأة الكبرى في هذا الشأن اعتراف الرئيس باراك أوباما بفشل سياسته في المنطقة مسجلاً بكل وضوح انه بالغ في التفاؤل حيال الجهود الرامية الى إحداث اختراق ما في أزمة المنطقة. ماذا يعني هذا الاعتراف عملياً؟ يعني أن الرئيس الأميركي فشل في مقاومة التصلب الإسرائيلي المتمثل ببنيامين نتانياهو وشركائه، والذي رفض التجاوب مع طرح واشنطن الداعي الى قيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية، إضافة الى الأزمة التي تزداد تفاقماً يوماً بعد يوم ونعني المضي في بناء المزيد من المستعمرات إمعاناً في تمزيق «الدولة الفلسطينية» المقطعة الأوصال، وإمعاناً في العربدة الإسرائيلية والمضي في سياسة التحدي لكل من هو فلسطيني وعربي مسلم أو مسيحي. بل للعالم بأجمعه، وأعلن نتانياهو قبل أيام أن الخطة التي يسير عليها تقضي باستقدام مليون مهاجر من كافة أنحاء العالم إنفاذاً لما يتفق عليه الإسرائيليون أو معظمهم على الأقل ب «إسرائيل الكبرى». أين العرب من كل ما يجري في فلسطين؟ صمت مريب. وأين العالم الذي يزعم زعماؤه سعيهم لإحقاق الحق والعدالة؟ الجواب صمت أكثر ريبة وتشكيكاً. وكان لافتاً في خطاب «حال الاتحاد» الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما أمام مجلسي الكونغرس التغاضي التام حتى عن الإشارة الى الوضع في الشرق الأوسط، وهو ما يثير الاستغراب حول تفسير هذا التجاهل من جانب الرئيس الأميركي، الأمر الذي يطرح العديد من الأسئلة التي لا إجابة عنها ومنها: هل استقال الدور الأميركي في المنطقة؟ وهل يمكن له أن يستقيل وهو الذي كان يعول الكثير على الجهود التي يبذلها موفده الخاص الى المنطقة السناتور جورج ميتشل؟ وبالتالي ما هي تداعيات هذا العجز الأميركي باعتراف أصحابه، والاعتراف سيد الأدلة في لغة القانون؟ وفي التدرج في السياسات والمواقف الأميركية تلاحظ بوضوح الصدمة التي أحدثتها آمال التغيير والتي أتت بأول رئيس أميركي من أصل أفريقي الى البيت الأبيض. وفي هذا السياق يشار الى أن شعبية الرئيس اوباما تدنت في شكل كبير حتى قبل انقضاء السنة الأولى من حكمه، وحزبه الديموقراطي فقد الأكثرية في مجلس الشيوخ مع فوز المرشح الجمهوري خلفاً للسناتور الراحل ادوارد كينيدي. كل هذا يشير الى إصابة الرئيس اوباما بحالة من الوهن والترهل السياسيين على رغم هذه الفترة القصيرة من حكمه، وهو ما يحتم عليه القيام بحالة استدراكية أو استباقية لإنقاذ دوره من الفشل ويكون ذلك باستعراض ما ارتكب من أخطاء في التوجهات الأميركية في عهد الإدارة الحالية. كذلك يجب أن تشمل هذه المراجعة ما ارتكب من أخطاء جسيمة في المنطقة، بخاصة إذا أضفنا الى إعلان الرئيس اوباما عن فشله ما قاله مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان، السفير السابق في بيروت: «كنا نعتقد أن دمشق هي المقاطعة والمحاصرة فإذا بنا نكتشف أن واشنطن هي المقاطعة وهي المحاصرة». هذا الكلام في منتهي الخطورة وهي يعكس في الوقت نفسه إجراء عملية نقد ذاتي. ولا يجب أن تقف الأمور عند هذا الحد، بل يجب أن تتبعها خطوات عملية تعكس توجهاً أميركياً جديداً في المنطقة. إن تجارب السنوات الأخيرة يجب أن تؤكد لفريق المنظرين والباحثين وخبراء الأمن القومي سقوط كل الرهانات السابقة، وهذه عملية باهظة التكلفة سياسياً واقتصادياً وأمنياً ومن كل جانب، على الذين ساروا في موكب هذه الرهانات، وهم يدفعون الأثمان الغالية. ولم يعد يجدي بعد اليوم السخرية ممن يطلق عليه «محور الممانعة». فدول هذا المحور تنشط في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من جبهة، لكن أخطاء السياسات الأميركية هي التي أسهمت الى حد كبير في تنامي دور ونفوذ دول «خط الممانعة». وفي المحصلة الأخيرة ومن وحي تجارب الماضي القريب إن مقاربة الإرهاب ليست عملية أمنية فحسب، بل هي عملية تشجيع على التنمية والاستقرار في دول المنطقة حتى لا تسقط المنطقة نهائياً فريسة هذا الإرهاب الذي تأخر الغرب كثيراً في مواجهة نتائجه المدمرة. وفي المقابل تتحمل بعض دول المنطقة مسؤولية كبيرة عن عدم اعتماد سياسات التنمية والاستقرار والإفادة من الطاقات البشرية حتى لا تتحول هذه الكفاءات الى طاقات تفجيرية. وشتان ما بين تفجير طاقات الشباب في اتجاه العلم والمعرفة، وجنوحهم نحو لوثة تكفيرية مدمرة لها ولكل ما يدور من حولها. وسيكون شعار المرحلة الآتية: المنطقة بين فريسة الإرهاب من جهة وإعلان واشنطن اوباما عن فشلها في إحداث اختراق ما في عملية السلام. * كاتب واعلامي لبناني [email protected]