يستهجن كثير من الأوروبيين ظهور السلاح مجدداً في أيدي رجال الشرطة وانتشار حواجز التدقيق في الهويات في شوارع مدنهم، بذريعة التهديد الإرهابي، ويعتبرون انهم يدفعون الثمن مرتين: الأولى عندما يموتون أبرياء في تفجيرات عشوائية تستهدف دولهم، والثانية عندما ترد السلطات بحملات دهم وتفتيش لا تستثنيهم وينتشر رجال أمن مسلحون امام المؤسسات العامة وفي المطارات والموانىء، بعدما كانوا يظنون ان مجتمعاتهم تخطت هذه المعادلة، وأن فرض الدولة الأمن والانضباط لا يُضطرها الى عرض ترسانتها من الرجال والسلاح. هذا في أوروبا. اما في اليمن فالعكس هو الصحيح. ذلك ان للسلاح والمسلحين، جنوداً ومدنيين، وجوداً لصيقاً بالحياة اليومية، تنطبع صورتهما في ذهن اليمني طفلاً، وتكبر مع تشربه تقاليد العائلة والقبيلة ثم النظام الاجتماعي والسياسي الأوسع، الى درجة يصبح غيابهما مستغرباً ومثيراً للريبة والاستنكار. منذ عشرين سنة وأكثر نقرأ ونسمع ان في اليمن ستين مليون قطعة سلاح، وأن ذلك يزيد عن ثلاثة اضعاف عدد السكان. لكن هذا الرقم ارتفع كثيراً في العقد الأخير، لا سيما بعد المحاولة الانفصالية في 1994 وما تدفق خلالها من اعتدة الى طرفي النزاع، كما تحسنت نوعية السلاح المنتشر حتى بات بالإمكان العثور في «السوق» على اي نوع او طراز منه، حتى الصواريخ والمدرعات. ويضحك بعض اليمنيين من ارتباطهم بالسلاح، ويقولون انك اذا سألت يمنياً يرغب في الهجرة عن مقصده المفضل لسارع الى اختيار الولاياتالمتحدة حيث يمكنه شراء ما يشاء من الأسلحة وتكديسها في المنزل. حتى ان مراسل احدى وكالات الأنباء العالمية في اليمن ظهر على التلفزيون ليقرأ رسالته وهو متمنطق خنجره، وبرر ذلك بأنه كان يحضر اجتماعاً قبلياً يستدعي اللباس التقليدي، بما في ذلك «زينة الرجال». وللحق، بذلت الدولة محاولات لجمع السلاح، ووضعت مكافأة مالية لمن يسلم سلاحه كلفتها عشرات ملايين الدولارات، حتى صار اليمني يشتري قطعة السلاح من السوق ليعاود بيعها من الدولة بسعر أعلى. وفي اليمن ايضاً يأتي الولاء للقبيلة والعائلة قبل الولاء للدولة، وهكذا يصبح الإرهابي في «القاعدة» المتحدر من القبيلة الفلانية متمتعاً بحمايتها لمجرد لجوئه اليها، اياً تكن الجرائم التي ارتكبها او الجهة الرسمية التي تسعى الى اعتقاله، وتتحول مطاردة مجرم استباح القانون والأنفس الى حرب مع القبيلة كلها، وربما انتصرت لها قبائل اخرى ايضاً. هناك بالتأكيد مجتمعات عربية مماثلة لجهة التركيبة القبلية، لكنها أخضعت نفسها لقوانين مدنية وانتقلت شيئاً فشيئاً الى طريقة حياة مختلفة تلازمها مرونة في التقاليد، وغاب السلاح الذي بات محصوراً في مناطق صحراوية بعيداً من المدن وغير ظاهر في الغالب، فلا تشاهد اماراتياً مدججاً بالسلاح يتمشى في شوارع دبي أو أبو ظبي، ولا تشاهد سعودياً يستعرض رشاشاً مضاداً للطائرات على سطح سيارته الرباعية الدفع في شوارع الرياض. لهذا كله تبدو المهمة التي طرحها الغرب على نفسه لإنقاذ اليمن من الانهيار، وكأنها إعادة بناء وطن بكامله انطلاقاً من واقع قريب من الصفر، ربما تهون أمامها مهمة اعادة بناء هايتي المدمرة بالزلزال.