لم يفتهم الميري (الوظيفة الرسمية) فحسب، بل فاتهم ترابه الذي كان آباؤهم يتمرغون فيه للحاق به. فزمنهم أبعد ما يكون عن الميري. وحتى إن وجد، فهم أعلنوا أنهم في غنى عن جنيهاته الهزيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وفاتهم أيضاً بريق القطاع الخاص بشركاته المتعددة الجنسية، ومصانعه المختلفة الأعراق. فلا تعليمهم الجامعي أهلهم للتنافس في هذه السوق، ولا قدراتهم الشخصية تخولهم فرض وجودهم في خضم تلال من القدرات والمؤهلات التي يمكن أن توصف بالهائلة. هم أربعة من الأصدقاء في أوائل العشرينات، جمعتهم زمالة الدراسة الجامعية في كليتي الآداب والتجارة، والظروف الاقتصادية المتواضعة، وتفكير منطقي غارق في الواقعية حول مستقبلهم بعد انضمامهم إلى قوائم يقدر عددها ببضعة ملايين حاصلة على درجة البكالوريوس. أحمد طاهر (23 سنة) يعرف تماماً أنه ليس مؤهلاً لشغل وظيفة مناسبة في القطاع الخاص تتطلب إتقاناً للغة الإنكليزية، كما أن علاقاته الشخصية والأسرية لا تسمح له باللجوء إلى الوساطة التي قد تدفع به إلى وظيفة هنا أو هناك، حتى الهجرة أمر غير وارد لأن على حد قوله «الشباب بالمواصفات نفسها منهم بدل الألف عشرة». هذا أيضاً منهج صديقه أيمن عبد القادر (23 سنة) الذي يلصق نفسه ب «الواقعية الشديدة». يقول: «من منا لا يحلم بوظيفة براقة في مكتب أنيق تدر عليه الآلاف كل شهر وتتيح له الزواج وتكوين أسرة والعيش في رغد؟ لكن علينا أن نعرف جيداً وضع الحدود في الوقت المناسب بين الحلم ومعطيات الواقع. فالتعليم الذي حصلنا عليه يؤهلنا لفرص تناسب حجمه ولا تزيد عليه، وهذا يعني إما أن أرضى بالعمل كمندوب مبيعات أجوب البيوت والمكاتب ولا أحصل إلا على بضعة جنيهات في حال بعت ما أحمله، أو أن أنخرط في مجال مثل البناء وأكون على قدم المساواة مع من لم يحصل على أي تعليم. لذلك فإن البدء بمشروع صغير يبقى أفضل الحلول». لكن حتى أفضل الحلول ليس بالأمر اليسير. فأي مشروع مهما صغر، يبقى في حاجة إلى رأس مال. يقول أيمن: «اقترض كل منا من ذويه مبلغ ألف جنيه واعتبرناها نواة لمشروع أجهزة هواتف محمول مستعملة نشتريها ونعيد بيعها محققين هامش ربح معقولاً. واستطعنا بعد بضعة أشهر رد نصف السلفة إلى ذوينا، وعقب تخرجنا بدأنا نتوسع في مجال العمل وصرنا نشتري أجهزة محمول جديدة، وغيرها من الأجهزة التي يستخدمها الشباب مثل «آي بود» و «إم بي ثري» وغيرها والأمور تسير بطريقة جيدة، ولكن لدينا مشكلات كثيرة». ويشرح عمر طلعت (24 سنةً) أن تلك المشاكل تتراوح بين ضرورة إضفاء الشكل الرسمي على العمل، خصوصاً بعد ما توسعوا فيه، وأن المشروع، على رغم نجاحه، يظل مصدر دخل غير ثابت. وتغيير هذا الواقع يعني الدخول في دوامة تأجير محل تجاري، وفتح ملف ضريبي، وغيرها، علماً أن الدخل يكفي لمصاريفهم الشخصية لكنه لا يؤهل أياً منهم شراء شقة مثلاً أو سيارة بالتقسيط. شريكهم الرابع طارق السيد (23 سنة) يحاول التصدي للمشاكل بطريقته الخاصة، ولو في شكل موقت. فطارق متمرس في مجال استخدام الكومبيوتر، وفكر في أن يكون الحل الموقت هو إطلاق مشروعهم عبر موقع إلكتروني يضع حالياً اللمسات النهائية عليه. ويقول: «سنعرض ما لدينا من أجهزة بالصورة والمواصفات الوافية، مع الإعلان عن إمكان توصيل الجهاز لمن يرغب في داخل القاهرة مقابل مبلغ زهيد». وعلى رغم أن الحل يبدو منطقياً، لكن الشباب يعلمون أن عليهم الانتقال بمشروعهم عاجلاً أو آجلاً من حيز «المشروع المنزلي» إلى «المشروع التجاري» وما يعنيه ذلك من إجراءات رسمية. والواقع أن الأصدقاء الأربعة ما هم إلا نموذج صغير لظاهرة صحية متنامية في أوساط الشباب المصري الذين انتشرت بينهم الأعمال الصغيرة والمتوسطة كوسيلة لمجابهة شبح البطالة، وذلك بدلاً من وسيلة أخرى أكثر كلفة وهي «التلطع» على النواصي والمقاهي والشرفات. ولعل الطريف أن الشرفات تحولت بدورها من أماكن مؤهلة لبدء مشاريع صغيرة، أو بالأحرى متناهية الصغر، مثل إنتاج عسل النحل، وزرع عيش الغراب، وغيرها. وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإن الأعمال الصغيرة والمتوسطة هي حجر زاوية القطاع الخاص المصري، على رغم عدم ظهورها في شكل واضح في ظل سيطرة حيتان الأعمال على الساحة الإعلامية. وتشير الأرقام الرسمية إلى أن مصر تعد نحو مليونين ونصف مليون مشروع صغير ومتوسط، تنمو بنسبة 39 ألف مشروع سنوياً. ومن الظواهر البالغة الإيجابية كذلك تنامي الاهتمام الرسمي والأهلي بهذا القطاع الذي يمكنه أن يستوعب عدداً هائلاً من الشباب، ويؤهل الكثيرين منهم للانتقال إلى صفوف رجال وسيدات الأعمال، في حال بدأوا وأداروا اعمالهم بأساليب علمية صحيحة. فهناك العديد من الجهات الحكومية التي تقدم الدعم والمشورة لمن يرغب في بدء مشروع متناهي الصغر أو صغير أو متوسط، بالإضافة إلى مئات التجارب التي كتب عنها أصحابها على شبكة الإنترنت، وغيرهم من الاختصاصيين الذين ينشرون خبراتهم ونصائحهم حول ذلك المجال مثل دراسات الجدوى وإجراءات التسجيل والعمل بطريقة رسمية، وتسويق المشاريع وتوسيعها لمن رغب. الخطوة الوحيدة التي لا يمكن القيام بها هي توزيع تلك المعلومات الثرية على جموع الشباب المصريين المتجمهرين في المقاهي ونواصي الشوارع بانتظار قطار تنمية ينتشلهم من غياهب البطالة. هؤلاء مقدر لهم طول الانتظار.