لا أحد يدري إن كان سميح القاسم يعاني ما يُسمى «محنة» السبعين. فهذا الشاعر الذي لم تخلُ حياته من المآزق وأولها مأزق الهوية الإسرائيلية التي يحملها عنوة مثله مثل مواطنيه في فلسطين 1948، لا يتوانى عن الهجاء، كلما سنحت له الفرصة، وبات إن لم يجد من يهجوه مباشرة يمعن في الهجاء الجماعي والعام الذي لا يرحم أحداً ولا يستثني إسماً أو ظاهرة... قد يحق لهذا الشاعر أن يصف نفسه من دون أي حرج بكونه «لسان العرب من المحيط الى الخليج»، وقد يحق له أن يكيل المديح لنفسه ويبالغ. هذا أمر شخصي وفي وسع أي شاعر أن يمضي به، ما دام صادراً عن الشاعر نفسه. أما أن يصف سميح القاسم المثقفين العرب بأنهم «مجرّد قطيع من المرتزقة والمأجورين»، فهذا كلام يدعو الى الشفقة ويحمل على الضحك. ولعله لا يتعدى كونه ضرباً من «الصبيانية» التي لا تليق حتماً بهذا الشاعر السبعيني. ولا يكفّ القاسم عن التحدّث عمّن يسميه «شعبه» الذي خوّله الحق في أن يكون شاعره، شاعر هذا الشعب، متباهياً أنه لم يكتب مرة «بيتاً واحداً تحت الطلب»... تُرى، أهو جنون العظمة أصاب الشاعر ودفعه الى مثل هذه الادعاءات الدونكيشوتية أم أن الشاعر الذي يشعر أنه أصبح خارج خريطة الشعر الفلسطيني الجديد والشاب يلجأ الى إثارة مواقف كهذه، متعجرفة وبهلوانية؟ يشعر القاسم فعلاً أنه لم يبق له أثر في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي الراهن، وأن الأجيال الشعرية المتوالية لا تعود إليه ولا تدرجه في لائحة مراجعها الرئيسة ولا تضعه في قلب السجال الشعري الذي خاضته وتخوضه باستمرار. لعل هذا ما يؤلم القاسم، أكثر ما يؤلمه: شاعر «القضية» يجد نفسه بلا «مريدين» ولا متأثرين ولا «مقلّدين»... بل بلا «أبناء» ولا «سلالة»، وحتى بلا رافضين أو خصوم. وقد يكون رحيل محمود درويش أصابه بحال من «اليتم»، ولو كان القاسم يكبره بضع سنوات. فاليتم هنا هو فقدان «القرين» الآخر الذي يمثل الرمز والمثال، وهو أيضاً فقدان الذريعة التي تحفز على الوجود وليس على التحدي فقط. لا أعتقد أن طيف محمود درويش غاب لحظة عن مخيلة سميح القاسم وعن ذاكرته أو وجدانه. وقد يكون صراعه مع هذا الطيف أو «الشبح» اللامع، أشد قسوة من صراعه السابق مع صاحبه. اصبح القاسم وحيداً الآن بعد رحيل أقرانه: محمود درويش، معين بسيسو، توفيق زياد وسواهم. أصبح وحيداً، شاعر «القضية» الوحيد، شاعر «المقاومة» الوحيد... لكنه أصبح وحيداً في ساحة لم يبق فيها أحد، بل في ساحة لم تبق هي نفسها موجودة، ساحة غائبة أو متوهمة. كان سميح القاسم يمنّي نفسه بأن الساحة ستفرغ له بعد رحيل صاحب «جدارية»، وبأنه سيحتل الموقع الذي طالما حلم باحتلاله، لكنه سرعان ما اكتشف أن الساحة انطوت مع رحيل محمود درويش، وأن الموقع تهاوى وأن المشهد الشعري الفلسطيني الراهن لم يترك له موطئاً لقدم... إنه حقاً يتيم محمود درويش. هذا الشعور الذي يخامره الآن يشعر به قراؤه أيضاً والشعراء الذين أعقبوه، سواء في الداخل الفلسطيني أم في المنفى الذي لم يبقَ كما كان في السابق. الشعراء الفلسطينيون الجدد لم يصطدموا إلا بجدار محمود درويش. الشعر الفلسطيني الآخر، السابق والجديد، لم يكن في نظرهم إلا وليد اللحظة التاريخية المأسوية، وهي لحظة كان لا بد منها كي يرسّخ الشعراء ملامح الهوية المهددة. أما محمود درويش فهو كان العقبة التي تحدوّها، وكان عليهم إما أن يتخطوها أو أن يعجزوا فيقفوا أمامها. وقد لا يكون مستهجناً أن يكون محمود درويش تحدى هذه العقبة، عقبته الشعرية، بنفسه، متخطياً نفسه باستمرار، بحثاً عن فضاء شعري يتجدد تلقاء، متجهاً الى المستقبل الذي لا تخوم له. واستطاع فعلاً شعراء ليسوا بالقلّة أن يهتكوا الصورة الرائجة أو المعمّمة للشعر الفلسطيني، وأن يهدموا «طواطمه» وتماثيله، وأن يفتحوا أمامه أفق الحداثة الأخرى، أفق التجريب والمغامرة، متحررين من الإرث الذي أثقل هذا الشعر. وبين هؤلاء شعراء حقيقيون وكبار ليس في مفهوم «الحجم» الشعري الذي يؤثره العرب عادة، بل في المعنى العميق للتجربة الشعرية. يجد سميح القاسم نفسه غريباً عن هؤلاء الشعراء، عن جيل الثمانينات كما عن جيل التسعينات والجيل الراهن، ويجد في هؤلاء خصوماً ولو لم يعترف بخصومتهم. فهو أصلاً لم يستوعب شعر هؤلاء الذين باتوا يمثلون عمق المشهد الشعري الفلسطيني الراهن وحقائقه والتحوّلات التي طرأت عليه. وقد سعى الى انتهاج طريقة الراحل نزار قباني في هجائه شعراء قصيدة النثر، فراح يكيل الأوصاف السيئة على الشعراء الجدد والشباب فإذا هم في نظره «وهميون» و «افتراضيون»... ولم يتمالك عن استخدام تهمة «التخوين» التي لا تليق به هو الذي عرف جيداً كيف يدافع عن نفسه عندما اتهم في السبعينات بأنه جندي إسرائيلي. ولعل السجال الذي دار بينه وبين محمود درويش ومعين بسيسو حينذاك، ما زالت أصداؤه تتردّد في الذاكرة. لكن سميح القاسم الذي دخل السجن الإسرائيلي أكثر من مرة، لم ينكر يوماً أنه خدم في الجيش الإسرائيلي رغماً عنه، هو الذي ينتمي الى الطائفة الدرزية الفلسطينية.