قدّم المخرج ناجي صوراتي عرضاً مسرحياً، استمر مدّة أسبوعين في مسرح غلبنكيان في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، كان أبطاله شبّاناً وشابات من مختلف الجامعات من طلاب المسرح أو سواه. قبل الكلام عن العرض لا بد من الإشارة إلى الدقة في التوقيت التي نفتقدها في مسارحنا، فعند الساعة الثامنة والنصف تماماً أُقفِلت الأبواب ومُنِع المتأخرون من الدخول وبدأ العرض بِمَن حَضَر! المسرح مغطّى، أو بالأحرى «مغلّف» بمثلثات متلاصقة تحجب الخلفية والأرضية، وعلى جانبيه آلتان لقياس نبضات القلب، وفي الأعلى تجلس مريضة (هالة المصري) عُلّقت لها إبرة مصل، تحمل في يدها عصا قائد الأوركسترا وتغنّي بصوتٍ ناعم بين الحين والآخر. في الخلف يجلس عازف تشيلّو (ريبال كلاّب) ويؤدّي بعض المقطوعات الموسيقية التي يتفاعل مع أنغامها الممثلون. لا قصّة واضحة للمسرحية، لا حبكة معيّنة، لا نصّ محدداً... الحوار مستوحى من نصوص للشاعرة إيتل عدنان هي أقرب إلى العبثية فجعلت العرض بكامله عبثياً يتنقّل بين مختلف المواضيع من دون ربط منطقي بالضرورة. القلب، الذاكرة، الزمن، الصوت، الضجيج، الطفولة، الشيخوخة، البقاء، الوحدة، الإنسانية... كلّها أفكار تداخلت في ما بينها وتمازجت تماماً كما فعلت اللغات في المسرحية. فبين اللغة الإنكليزية الطاغية واللغة الفرنسية الأرستقراطية واللغة العربية الخجولة في مساحتها والثقيلة في مكانتها جاء العرض متعدد الثقافات. الفكرة المشتركة هي القلب وما يحصل داخل القلب، وهنا لا بد من التركيز على آلة تخطيط القلب التي يتغيّر معدّلها تماشياً مع الحركة والجو العام، فتارة تكون النبضات عادية وتارة أخرى متسارعة أو متباطئة، عالية أو منخفضة، قبل أن تتحوّل الخطوط على الآلة في النهاية إلى خط واحد مستقيم مشيراً إلى توقّف النبض وإلى ختام العرض. الممثلون الذين بلغ عددهم 14 كانوا فعلاً مميّزين في أكثر من مجال. فمن ناحية الأداء كانوا مقنعين (حتّى لو لم تكن الشخصيات واضحة المعالم) أو على الأقل استطاعوا جذبنا، ومن ناحية اللياقة البدنية والليونة في الحركة كانوا لافتين فركضوا وقفزوا ووقعوا وتسلّقوا... وكذلك من ناحية التنسيق في التنقّل على الخشبة كانوا دقيقين فرمَوا المثلثات بعضهم لبعض من دون أن تقع، وقفزوا من فوق خشبةٍ تدور بسرعة من دون أن تلمسهم، وسارعوا إلى التقاط خشبةٍ متهاوية من دون أن يسمحوا لها بملامسة الأرض. المسرح تمّ استعماله بكلّ زواياه وكل مساحته الظاهرة وغير الظاهرة، فانتشر الممثلون على الخشبة في الوسط وعلى الحائط في الخلفية ودخلوا إلى ما وراء الحائط (الذي فكّكوه خلال العرض)، حتّى إنّهم استعملوا المساحة الموجودة تحت خشبة المسرح فحملوا المثلثات التي تغطّي الأرضية فإذا بالأرض كلّها تنقلع من مكانها ليظهر من تحتها الممثلون. المشهد الأكثر إبهاراً كان رمي ذلك المثلث الشفاف الذي يرمز إلى القلب ويجمع العقل والروح والجسد، فيطير في الهواء قبل أن يهبط بين يدَي شخص آخر يرميه بدوره إلى ثالث فرابع فخامس، مع تفاعل لافت للباقين الخائفين من أن يسقط أرضاً فيموتون. الرغبة في الموت ومفارقة الحياة من جهة، والتعلّق بنبضات القلب والتمسّك بها من جهة أخرى كانا الشعورَين اللذين تعاقبا على كلّ شخص. وبين استسلام ونضال كان لا بد من تقبّل الأمر الواقع والاقتناع بأنّ القلب سيتوقف عن الخفقان عاجلاً أو آجلاً. مشهدٌ آخر مثير للإعجاب هو المشهد الأخير الذي يتوزّع فيه الممثلون في مختلف أنحاء المسرح على وقع موسيقى مناسبة وإضاءة جميلة كان لها أثر فاعل خلال العرض بكامله، فكان القلب يُعلن انسحابه من المعركة، معركة البقاء على قيد الحياة، قبل أن تؤكّد آلة قياس النبض أنّ نتيجة الحرب بكاملها قد حُسِمتَ. ولعل ما يُمكن أن يؤخذ على هذا النوع من المسرحيات التجريبية أنّها غير واضحة، أو بأحسن الأحوال لا يفهمها إلاّ البعض القليل جداً (هذا إن كان هناك صيغة واضحة لتُفهَم)، وبالتالي فإنّ عرض «في قلب قلب جسد آخر...» المأخوذ عن كتاب إيتل عدنان الصادر عام 2005 «في قلب قلب وطن آخر» وضعنا في قلب قلب حيرة محيّرة بحيث يمكن كل مشاهد تحليل ما يراه كما يحلو له! وإن كان البعض يرى في هذا الأمر نتيجة مرجوة فإنّ كُثُراً يجدونه ضعفاً أو ثغرة. لا تنقل المسرحية فكراً معيناً ولا تطرح الحِكَم والعِبَر ولا تعرض رؤية فريدة ولا تجيب عن الأسئلة... بل تكتفي بنقل إحساس يصل إلى المشاهدين بطرق مختلفة، مشوّشاً حيناً وواضحاً حيناً آخر. المخرج ناجي صوراتي اعتاد تقديم مسرحيات تجريبية مع طلابٍ يُحسن إدارتهم تمثيلياً، ويبدو أنّه يجد متعته فيها، ولكن نأمل أن تخرج مسرحياته المقبلة إلى أنواع أخرى والى مسارح غير أكاديمية علّها تصل إلى شريحة أكبر من المشاهدين بدلاً من أن تبقى وقفاً على فئة معيّنة غالباً ما تفرح بالموجود حتّى من دون أن تفهم السبب. وناجي صوراتي يستحق فعلاً أن يكون في طليعة المسرح الجديد والشاب.