أكثر من أي وقت، يعيش التلفزيون نشوة الانتصار. أكثر من أي وقت يبدد الشكوك ويؤكد سطوته في المجتمع. كيف لا ورئيس أكبر دولة في العالم، عدّل جدول أعماله بما يتوافق وجدول أعمال الشاشة الصغيرة غير عابئ ب «الخسارة»؟ كلام قد يبدو للوهلة الأولى من قبيل الهذيان. لكنّ الخبر الذي مرّ في بلادنا مرور الكرام، حقيقي، ولا شك في انه سيجرّ كلاماً كثيراً في الغرب ودراسات لن تقف عند حدوده فحسب، إنما ستطاول أبعاداً أخرى في العلاقة بين التلفزيون والمجتمع. الخبر قرأناه قبل أيام حول رضوخ الرئيس الأميركي باراك أوباما لاحتجاجات محبي مسلسل «لوست» بتعديل موعد إلقاء الخطاب الرئاسي السنوي عن حال الاتحاد، والذي تزامن واليوم المقرر أن تبدأ فيه قناة «إي بي سي» عرض الموسم الأخير من المسلسل الذي يترقبه جمهور كبير. وبصرف النظر عن المسلسل في حد ذاته ونجاحه الكبير في الولاياتالمتحدة (بلغ عدد مشاهدي الحلقة الواحدة خلال العام الأول للعرض 16 مليون مشاهد)، فإن المسألة أبعد من «لوست» ومن كل المسلسلات الأميركية التي تأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامات الشعب الأميركي. فإذا كان بعض المراقبين يرى أن سلوك البيت الأبيض، كما جاء على لسان الناطق باسمه روبرت غيبس، إنما أتى خوفاً من خسارة ملايين من المواطنين الذين كانوا سيفضلون متابعة برنامجهم بدلاً من متابعة خطاب رئيسهم، إلا انه، وفي كل الأحوال، يُشتم منه موقف ديموقراطي يحترم رغبة الجمهور. ولعل أكثر ما يمنح هذا الموقف أهميته أنه يصدر عن السلطة الأولى في الولاياتالمتحدة التي لم تهتم بكل ما سيكتب حول خسارة أوباما أمام مسلسل تلفزيوني، بمقدار ما اهتمت بعدم خسارة جمهور «لوست». وهنا بيت القصيد. أمام مثل هذا الخبر، لا يمكن المواطن اللبناني (والمواطن العربي بشكل عام) إلا أن يتحسر على شاشات بلاده التي تتقوقع أكثر فأكثر على نفسها، وتتحوّل من الإعلام الخاص الى ما يشبه الإعلام الرسمي وشبه الرسمي من خلال ترويج كل محطة للفكر السياسي الذي يمثّله صاحبها. فكم من مرة قُطع بث قناة لنقل خطاب الزعيم الذي يموّلها من دون أي إنذار أو اعتذار... وكم من مرة لعبت محطة معركة مموّلها، غير عابئة بالجمهور الآخر، الذي غالباً ما تضحي به على مذبح السياسة. بالنسبة الى مثل هذه المحطات، من الواضح أن كل ما يبث على الشاشة، هو دائماً أقل أهمية بكثير من أي شيء قد يقوله الممول أو ممولو الممول... وهي في هذا لا تبالي لا بمتابعة جمهورها برامجها، ولا بأن يكون لها، أصلاً، متابعون أكثر ذكاء وتطلباً من المعتاد، أي من النوع الذي لا يركض كالقطيع خلف صاحب الشأن. ويبقى السؤال: هل يمكن أن يأتي وقت قريب، يجد فيه الزعيم أو المسؤول أن مصلحته مراعاة مصلحة جمهوره وذوقه... إن لم يكن الجمهور بشكل عام، خوفاً من أن يعاقبه في... الانتخابات المقبلة؟