الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، أما بعد: فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن بجاد السلمي أنه قال: "أنذرتكم سوف أقوم، سوف أصلي، سوف أصوم".1 وعن الضحاك قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى: أما بعد، فإن القوة في العمل أن لا تؤخروا عمل اليوم لغد فإنكم إذا فعلتم ذلك تداركت عليكم الأعمال فلم تدروا أيها تأخذون فأضعتم، فإذا خيرتم بين أمرين: أحدهما للدنيا، والآخر للآخرة فاختاروا أمر الآخرة على أمر الدنيا، فإن الدنيا تقنى وإن الآخرة تبقى، كونوا من الله على وجل وتعلموا كتاب الله فإنه ينابع العلم وربيع القلوب.2 أيها المسلم والمسلمة: إن التسويف آفة تصيب نفراً من الناس، بل لا يكاد يسلم منها إلا أصحاب الهمم العالية، والإرادات القوية والعزائم الصادقة. تنتج آفة التسويف من ضعف الإرادة، وفتور العزيمة، ونزول الهمة، أو الكسل والتراخي مع النفس، فمثلاً: بينما الواجب ينادي المسلم ويلح عليه إذ يدعوه ضعف الإرادة وفتور العزيمة، ونزول الهمة، إلى القعود عن أداء هذا الواجب بحجة أن في الغد فسحة أو فرصة. وقد تكون صحبة الكسالى، والمسوفين السبب في التسويف، ولا سيما إذا كانت هذه الصحبة قبل إيجاد الحصانة التي تحول دون انتقال عدوى الكسل والتسويف. ولعل هذا هو السر في تأكيد الإسلام على الصحبة الطيبة، ونبذ ما عداها. وقد ينشأ المسلم في أسرة بنت حياتها على التسويف، فالأب، والأم، والأجداد، والإخوة الكبار غارقون من مفرق رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم في الأخطاء، ويعدون بالتغيير ولا تغيير، ولهم أماني طويلة، وعريضة، ولا تنفذ ولا تطبق، وقد تبغي الأسرة حياتها على تدليل الأولاد القائم على الحنو والشفقة المجاوزين للحد، فيندفع الابن إلى أداء المعروف محاكاة للكبار، فتمنعه الأسرة من أداء هذا المعروف بحجة صغره وعدم إطاقته، وتعده بإفساح المجال له في المستقبل، ويتكرر ذلك في كل مرة، حتى يرث هذا الابن خلق التسويف. وقد يكون طول الأمل مع نسيان الموت والدار الآخرة من الأسباب التي تؤدي إلى التسويف، فالحذر الحذر من التسويف. وقد أوصى حكيم ابنه قائلاً: يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة، ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين، أحدهما: أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي، حتى يصير رينا وطبعاً فلا يقبل المحو، الثاني: أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو. وعن أبي إسحاق قال: قيل لرجل من عبد القيس في مرضه: أوصنا قال: أنذرتكم سوف.3 وقد يكون التعويل على عفو الله ومغفرته، مع نسيان شدة أخذه سبحانه وعقابه هو السبب في الوقوع في آفة التسويف، قال ابن الجوزي -رحمه الله- في معرض الكلام عن أسباب التسويف في التوبة: "يرى العاصي يقول: ربي رحيم وينسى أنه شديد العقاب ولو علم أن رحمته ليست رقة إذ لو كانت كذلك لما ذبح عصفوراً و لا آلم طفلاً و عقابه غير مأمون فإنه شرع قطع اليد الشريفة بسرقة خمسة قراريط، فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزماً يبتُّ المصالح جزماً".4 نسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزما يبت المصالح جزما، وأن يعيننا على أنفسنا حتى لا تسوف في أعمال الخير والبر والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين.