أريد أن أزرع شتاتي المتناثر فوق البحر وعلى رمال الصحراء في بستان .. ينمو زهرا أو شوكا لا يهم .. ينمو نخلا أو طحالب لا يهم .. وكل الذي يعنيني بستان مزروع بالورد الأبيض تمرح فيه محبرتي ..!! يستيقظ بداخلي أزير أسد متمرد .. لكنه مقيد بقضبان .. ومع ذلك يخافه كل من يمر بمملكته الخاصة .. هي هكذا بلاط صاحبة الجلالة !! ويسقط أيضا بداخلي .. تمرد قلم .. وكلمات أكتبها في الهواء .. لا تجرؤ أن تأخذ مساحة في بستان الورد الأبيض .. تخاف أن تنمو فيقتلعها الذباب والناموس .. أو ترضى بحالة الأسد المقيد خلف القضبان .. ولكن هناك من يشم رائحتها من بعيد ..!! ويلف في رأسي ألف سؤال وسؤال .. ويبقى عاجزا عن الإجابة .. لا شيء هنا في الدماغ .. فكل الخلايا العصبية واللا عصبية .. الإرادية واللاارادية .. تسكن في محبرتي اللعينة .. هي من تقودني لألف إجابة وإجابة .. لكنها في كثير من الأحيان تكتب أمام ناظري "كن جبانا تعش زمانا"..!! حاولت الاستسلام لتلك المقولة الشهيرة لكن قلمي متمرد .. لا يستطيع العيش وسط المياه الراكدة .. لقد اغتسل منذ نعومة أظافره بمياه أمواجها متلاطمة تقذفه يمينا .. فيصر على المكوث في الشمال .. يطوف على الجهات الأربع .. ويعيش في مناخ الفصول الأربعة في يوم واحد.. لا يحب الطريق المعبد .. فقد عشق المشي على الأشواك .. ولذته أن يتخطاها ..!! أصحو أنا وقلمي .. أشحذ الهدوء .. أحاول ترويضه .. أتمتم بكلمات خفية .. فيسمعها ويكتبها بدون "احم ولا دستور" .. لا أعرف ممن تعلم استراق السمع .. ظننت في بعض الأحيان انه ليس بجماد .. فهو يسمع ويتكلم بصمت .. ويملك صفات العناد والمراوغة والخديعة .. لا يسمع النصيحة .. ويركب رأسه دون أن يلتفت للآخرين ..!! يتربص ليلا .. فيسطو على الكلمات .. هكذا بدون مقدمات ولا تخطيط ولا تدبير .. أتعجب كيف يسلك درب الصعاب .. فلا حرس يوقفه .. ولا ملل يسكنه .. ولا نعاس يهاجمه فيفتك به .. ينام على سريره بفكرة .. ويصحو بفكرة أخرى ..!! أحيانا أقول لنفسي .. ماذا لو رميته بعناده وصخبه وحسناته وسيئاته في البحر ؟! أو أحرقته لترتاح أناملي من جبروته .. فقد أصبحت أسيرا له أمشي معه كظله .. وأنام معه في سريره .. وأدفع ثمن أخطائه .. لكنني وجدت نفسي في البحر .. وهو على الشاطئ ينتظر قدومي .. فأدركت حينها أن أحلامي وحتى أوهامي ترسو في ميناء محبرته ..!! تساءلت ماذا لو جعلت الأفاعي التي تسكن زنبقة الحرف في قلمي تنفخ في فضاءات الفوضى .. وتهيم في سماء الرياضة .. ترمي سمومها في طريق سالك ..!! لكنني وتحت وطأة النبل الذي يزورني متقطعا .. أقول لنفسي ربما الأحرى بي مغادرة ساحة الصخب .. أتراجع وأقاوم لكن زائري "النبل" ينقطع عني طويلا .. فأعود للغة الأفاعي ..!! تساءلت أيضا هل كان لزاما علي أن أكون أسيرا لهذا الغول في مكائده ومصائبه وصخبه وهيجانه .. الصغير في حجمه .. الخفيف في حمله .. ؟! في الوهلة الأولى .. اعتقدت أنني رجل احتضن صندوقا فارغا وتوهم أنه مليء بالذهب .. لكنني بعد تفكير غارق اقتنعت أن لهذا القلم مناقير وأجنحة ورأسا يملوه التغريد أحيانا .. والنياح في أحيان أخرى .. يحالفه النجاح تارة .. ويبدو كعاشق فاشل يرتجف أمام حبيبته "الكلمات" تارة أخرى .. وأنا أتهادى معه بسمكة اسميها "غنائمي" . هي لغة اذا .. تتهادى بين عاشق اسمه "القلم" ومعشوقته "الورقة البيضاء" .. ولم تدخل التكنولوجيا على هذا العشق في أجندتي .. فمازال هذا الغول القادم من الغرب الذي يطلق عليه "الكمبيوتر" عدوي الأول والأخير .. فعندما أجلس أمامه لأكتب .. تموت أحرفي .. وتذبل كلماتي .. واحمل نعش قلمي لمثواه الأخير .. وأغطيه بتراب التبلد والكآبة .. وأعلن حينها عن وفاة كاتب .. ان صح أن يطلق عليه كاتب ..!! لن ولم ينحن رأس قلمي مادام يشم رائحة الورق ولن ينكسر وسيبقى متمرداً مهما علت امواج البحر على قاربه الذي يعرف تمامًا كيف يصل الى شاطىء الامان .. علت الموجة او هدأت فإن قلمي المتمرد لن يهدأ من المشاغبة حتى لو تغيرت الامكنة والازمنة ..