تتميز حملة الانتخابات الرئاسية في فرنسا باتساع الانقسامات السياسية بين اليسار واليمين من جهة، وبين تيارات متنافسة داخل كل طرف. وتتميز للمرة الأولى بتدخل سافر من أطراف خارجية، حيث أشير إلى مساع ألمانية لدعم الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي عبر الضغط على دول أوروبية مهمة بعدم استقبال مرشح الحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند الذي لم يخف نيته إعادة التفاوض على الميثاق الأوروبي الجديد إذا ما انتخب رئيساً للجمهورية، وهذا يعني أن المكاسب التي حققتها ألمانيا في الميثاق على حساب فرنسا سيعيد هولاند النظر فيها، وهو أمر لا يمكن لمراكز القوى الاقتصادية الألمانية القبول به.من جهته يسعى ساركوزي إلى إقناع مواطنيه بأن أزمة الأسواق العالمية فاجأت ولايته الأولى، وأنه واجهها بطرق فعالة أدت إلى حماية المشروع الأوروبي من الانهيار، وإلى رعاية المصالح الفرنسية العليا، وهو يطلب من مواطنيه فرصة ثانية لتحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه، ملوّحاً بالتشدد ضد العمالة الأجنبية وضد الهجرة السرية، وتحقيق إصلاحات أساسية في الضمان الاجتماعي والتربية، والامتناع عن فرض الضرائب، وتوفير فرص النمو الموعود منذ بعض الوقت مع أنه ما زال متعذراً.وفي سياق الانقسام في صفوف المعسكر الواحد يلاحظ اتساع الشقاق في صفوف اليمين التقليدي، حيث يشتد التسابق بين اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن واليمين الديغولي بزعامة ساركوزي، على كسب فئة مهمة من الناخبين التقليديين، وخاصة كبار السن الذين يكرهون الأجانب ويعتقدون أن التشدد حيالهم ينطوي على حلول ناجعة للأزمة الاقتصادية والحد من البطالة. وبما أن "الجبهة الوطنية" المتطرفة ما انفكت تحرز تقدماً عبر الحملة على الأجانب، فإن ساركوزي يسعى إلى استمالة ناخبيها "15 إلى 18 في المئة من الأصوات" عبر تبني شعاراتها "خلسة"، وانتقاد عنصريتها علناً. وقد نجح رئيس الجمهورية في الدورة الماضية في الحصول على أصوات القسم الأكبر من هؤلاء بحديثه عن "تنظيف ضواحي المهاجرين بخراطيم غسل السيارات"، وهذا التشبيه أريد منه القول لليمين المتشدد إن ساركوزي لن يتساهل مع الأجانب كما فعل اليسار الذي يطالب بالسماح لهم بإلادلاء بأصواتهم في الانتخابات البلدية. ولم يقصر وزير الداخلية المتشدد بالحديث عن هرمية الحضارات وتمجيد الحضارة الأوروبية والحط من قدر الحضارة العربية، وكما لم يقصّر باستخدام طائرات التشارتر التي رحلَت قسراً عشرات الآلاف من المهاجرين المطرودين إلى إفريقيا وآسيا.ويبقى التنافس قوياً أيضا بين ساركوزي ويمين الوسط الذي يمثله فرانسوا بايرو الذي تمنحه استطلاعات الرأي زهاء 15 في المئة من الأصوات، وهو يعتقد أن حظوظه في هذه الدورة للتنافس مع المرشح الاشتراكي ستكون أفضل من الدورة الماضية، لأن الفارق بينه وبين الرئيس ساركوزي ما برح ينكمش مع اقتراب موعد الاستحقاق.تبقى الإشارة إلى رئيس الوزراء الأسبق دومينيك دو فيلبان الذي يمثل الجناح المتشدد من الديغوليين والمعروف على نطاق واسع بخطابه الشهير في الأممالمتحدة الرافض للحرب الأمريكية على العراق، هو اليوم الوحيد الذي يطالب بتوجيه ضربات عسكرية هادفة ضد سوريا ويعد بذلك إن وصل إلى قصر الإليزيه، وهو لن يصل بالتأكيد، لأن استطلاعات الرأي تمنحه أقل من 3 في المئة من أصوات الناخبين. وإذ تتسع وتشتد الانقسامات داخل صفوف اليمين يلاحظ أن الكتل اليسارية تسعى إلى هزيمة اليمين وتتجنب سجالات قاتلة بين صفوفها، وتمتاز الانتخابات الراهنة بصعود جان لوك ميلونشون متقدماً على الحزب الشيوعي الفرنسي وعلى اليسار المتطرف، ويتضح من الحملة الانتخابية للأطراف الثلاثة أنها ترغب في تسجيل نسبة عالية من الأصوات في الدورة الأولى لرسم ميزان واضح للقوى داخل صفوف اليسار، على أن تصب الأصوات اليسارية بقسمها الأكبر لمصلحة المرشح الاشتراكي في الدورة الثانية وهو حتى الآن الأوفر حظاً لدخول قصر الإليزيه، غير أن باب المفاجآت ما زال متاحاً أمام ساركوزي الذي يتمتع ببراعة معهودة في مفاجأة خصمه والانقضاض عليه من حيث لا يتوقع.