مرة أخرى يشمّر الموت المتنقّل عن ساعديه ويضرب العراقيين عشوائياً، بلا رقيب أو حسيب، أو حتى هدف معلن يعرفه الميّت قبل موته، والباكي عليه بعد كفكفة الدموع. عشرات القتلى والجرحى في تفجيرات متزامنة هزت أماكن مختلفة في العراق الذي ما زال يدمي قلوب العرب، إذ يواصلون التفرّج عليه لقمة سائغة لأدوات القتل والفوضى، ومعاول التخريب والفتنة الهادفة، لإبقائه مقصى وغائباً عن دوره كبلد عربي محوري لم يكن في يوم من الأيام متخلّفاً عن دوره الأساسي ضمن منظومة القوى المؤثّرة تاريخاً، وإمكانات في صياغة الحالة العربية وحماية لما تبقى من كيانية عربية آيلة للتبعثر والتبديد. يعجب المرء ويحتار في تصنيف هذه التفجيرات بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة والهجمات بالأسلحة الرشاشة، وهذا الاستهداف للناس في الأسواق والأماكن العامة، وبالتحديد في أوقات الذروة لإيقاع أكبر عدد من الضحايا. ما الذي يمكن أن يحققه هذا النهج الأعمى الذي لا يفرّق بين طائفة وأخرى، ولا يرحم الأبرياء، نساء وعجائز وأطفالاً يموتون من دون أن يعرفوا لماذا يقتلون ويجرحون؟ إذا كانت هذه الأدوات مدرجة في أسلوب الكفاح المسلّح، فإن هذا الشكل الأرقى للنضال السياسي له ضوابطه وشروطه، وأولها وجود العدو الغازي أو المحتل، فهل المدنيون الأبرياء أصبحوا أعداء، أم جسراً لأهداف لا علاقة لها بمصالح الوطن والأمة؟! لقد صدّقنا ذات يوم قبل عقد من الزمن، أن النظام السابق سبب المصائب والخطايا في العراق، لكنه أصبح من الماضي، وجاء المحتلون ب"بشائر" الديمقراطية والحرية كنظام بديل للدكتاتوريين والطغاة، لكننا نرى العراق يتحوّل إلى بركة دم وصراع لا يتوقّف على السلطة والنفوذ والامتيازات والتسليم للقوى الخارجية. يحاججون دائماً بأن التغيير لا يأتي بين عشيّة وضحاها، حسناً لكن "لو أرادت أن تمطر لغيّمت"، ونحن نرى العهد الجديد وقد مضى عليه عقد من الزمن يؤسس اللاشيء، وما زال التراجع سيد الموقف، بل ما زال العراق يسير نحو التفكك والضعف، ويواصل الهرولة إلى المجهول. هذا هو العراق الذي سمى المتفذلكون احتلاله إحلالاً، وتدميره حرية، ومحاصصته ديمقراطية، وطائفيته المخترعة تعددية، وتبعيته استقلالاً، ومنطقته الخضراء ربيعاً. فكّكوا جيشه الأقوى في المنطقة، ولم يفسروا لنا كيف يكون التفكيك بناء، وكيف يكون الدفاع عن الوطن بلا جيش؟!!. هناك قوى، منها المخفي ومنها الظاهر، تريد أن تؤكد فرضية وتجعلنا نصدّق أننا أمة لا تليق بها الديمقراطية، وأنها مخيّرة دائماً بين السيئ والأسوأ، بين دكتاتورية الأشخاص ودكتاتورية الطوائف، بين الظلم والظلام، بين لقمة مغمّسة بالذل والرشوة، بين أميّة سلبية وثقافة تباع وتشترى، بين حرية الفرد وعبودية الوطن، بين ظلم ذوي القربى، وقصف الغزاة، بين دكتاتورية وطنية وليبرالية تابعة، بين جاهل عدو لنفسه ومثقف عدو للأمة، بين نظام السيئ ولا نظام.. الجرح العربي عميق، ومن لا يضع يده على الجرح لن يعالجه، وبين التشخيص والعلاج هوة سحيقة دونها غياب الوعي والقرار المستقل والبلوغ السياسي، والشعور بالعجز عن الفطام عن ثدي الآخرين لتخليصنا من أنفسنا، والحلول مكانها لإطعامنا من فتات طعامنا. لا نعرف كم نحتاج من وقت ودم لكي نستعيد روح أجدادنا الأميين الذين حاربوا الأحلاف واكتشفوا المؤامرات بعفويتهم النظيفة. يبدو أننا لم نرث عنهم بغضهم للاستعمار، ونستعد أن نورّث أبناءنا اختراعاً خالصاً من إنتاج الزمن الرديء بأن "صديق عدوي صديقي".