لا أريد الرد على "هيومن رايتس ووتش" التي تحذر من انزلاق العراق نحو الاستبداد، كما جاء في تقريرها الأخير، ولكن علينا التوقف طويلا عند الجهة التي بذرت الاستبداد، ولم تتحدث عنها المنظمات الدولية ومن بينها "هيومن رايتس ووتش"، وقبل ذلك لماذا لم تتحدث المنظمة عن هذا المنزلق قبل خروج القوات الأمريكية من العراق نهاية العام الماضي 2011؟ تتوزع الانتهاكات التي حصلت في العراق منذ بداية الغزو الأمريكي عام 2003، إلى ثلاثة أنواع، إما أن ترتكبها القوات الأمريكية بصورة مباشرة، أو تمارسها الأجهزة الأمنية الحكومية، والنوع الثالث ترتكبه عصابات تم تدريب غالبيتها من قبل القوات الأمريكية؛ وسنأتي على هذه الجهات الثلاث وما ارتكبته بحق العراقيين. إذا كان معيار المنظمات العالمية في وصف جهة ما بالاستبدادية، وتنطلق منها في التحذير من خطورة ممارساتها والطريق الذي تنزلق فيه، يبدأ من التضييق على الرأي العام ومطاردة الصحفيين وأصحاب المواقف المضادة لتوجه جهة معينة، فإن الأمريكيين في العراق مارسوا أبشع الانتهاكات ضد الصحفيين في العراق، وقبل أن تستقر قواتهم في ساحة الفردوس وسط بغداد في التاسع من أبريل "نيسان" عام 2003، قتلت القوات الأمريكية مراسل الجزيرة التي قصفته الطائرات الأمريكية يوم الثامن من أبريل "نيسان"، علما أنه معروف للقوات الأمريكية ويقع على ضفة نهر دجلة، ونتج عن القصف مقتل الصحفي طارق أيوب، وعلى مقربة من مكتب الجزيرة تمت محاصرة فريق قناة أبو ظبي، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد قصفت دبابة أمريكية فندق المريديان بجانب الرصافة وهو مكان اختاره الصحفيون والإعلاميون للإقامة به بعد التهديد بقصف فندق المنصور ميليا الواقع قرب وزارة الإعلام العراقية، وتسبب القصف الأمريكي بمقتل صحفي إسباني وجرح آخرين. اعتقد الكثيرون أن القوات الأمريكية ستتعامل بطريقة أخرى بعد دخولها بغداد، أما عندما ألقى الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش خطابه الشهير في الأول من مايو 2003، معلنا الانتصار في العراق، فقد تصور الكثيرون أن حرية الصحافة ووسائل الإعلام في العراق ستكون أفضل من تلك الموجودة في الولاياتالمتحدة والغرب عموما، لأن أمريكا تتحدث عن الديمقراطية، وأن أهم أدواتها حرية الصحافة والحضور الفاعل للرأي والرأي الآخر، إلا أن ما حصل بحق الصحفيين من قتل واعتقال وتعذيب وإهانات لا يتصوره الكثيرون، فقد قتلت القوات الأمريكية مصورا صحفيا وقالت في ردها على هذه الجريمة إن الجندي الأمريكي اعتقد أن الكاميرا التي يحملها الصحفي عبارة عن قاذفة، في حين كان المصور يرتدي شارة الصحافة. وفي شهر مارس "آذار" عام 2004، أطلقت القوات الأمريكية النار على اثنين من الإعلاميين في منطقة الكرادة وسط بغداد فقتلتهما في الحال، وكانا يحملان شارة الصحافة أيضا، وبينما كان الصحفي مازن الطميزي يحاول تغطية حرق دبابة أمريكية في شارع حيفا عام 2005، أطلقت مروحية أمريكية النار عليه وقتل في الحال، وكان يغطي الحدث على الهواء، مستهدفة شخصه الذي يقف أمام الكاميرا وبين حشد من الناس بينهم عدد كبير من الصبية والأطفال. وفي بداية عام 2006 اعتقلت القوات الأمريكية المصور الصحفي بلال حسين، ولم تطلق سراحه إلا بعد انقضاء سنتين بالتمام والكمال، دون وجود أي تهمة، ولم تعتذر هذه القوات عن انتهاك حريته كل هذه المدة. وهناك مئات القصص المأساوية التي تعرض فيها صحفيون وإعلاميون للانتهاكات على أيدي القوات الأمريكية. وما ارتكبته الأجهزة والعصابات المدربة من قبل هذه القوات من انتهاكات بحق أصحاب الرأي ووسائل الإعلام، لا تختلف عن تلك التي ارتكبتها القوات الأمريكية، وتم اغتيال نقيب الصحفيين العراقيين السابق شهاب التميمي وسط بغداد، دون أن تظهر نتائج التحقيق، وتم اختطاف الكثير من الإعلاميين والمثقفين وناشطين وناشطات في حقوق الإنسان. ما أريد قوله إن كل ما يجري في العراق منذ الاحتلال وحتى الآن هو استبداد أمريكي، سواء كان بصورة مباشرة أو من خلال أجهزة أمنية دربتها القوات الأمريكية على الانتهاكات بحق العراقيين.