ليس مجالنا هنا الحديث عن شرعية الثورة في سوريا من عدمها، لأن المسألة محسومة في حق الشعوب في الحرية والكرامة، مع ما يقتضيه هذا الحق من عدم استغلاله من قوى أجنبية لها أجندة أخرى، ظاهرها الدفاع عن هذا الحق وباطنها السيطرة عليه وتوجيهه لمصلحتها بعيدا عن المبادئ الحقيقية والأصلية للثورات الشعبية. وهذا ما جعل المشهد السوري ضبابيا، فمع تواصل تساقط القتلى من المتظاهرين، يتواصل الحديث عن قتلى من الجيش والمواطنين الأبرياء على أيدي عصابات مدَرّبة حسب النظام السوري، لذلك تبدو رؤية المشهد من الداخل مربكة وكافية لفهم حقيقة ما يحدث على الأرض. ستكون قراءة المشهد السوري أوضح في تتبع تحركات الدبلوماسيات المختلفة، العربية والغربية والتركية، تماما كتتبع الغواصات البريطانية والفرقاطات الروسية والمناورات الإيرانية الحالية. في هذا الإطار، ليس مهما كثيرا القول بأن القضية السورية سيقع تدويلها قريبا وبصفة نهائية، وستصل للأمم المتحدة لأن تدويل القضايا العربية خاصة ليس جديدا، ولكن تبعات ذلك ستكون مختلفة عن كل ما سبق. سوريا، دولة مواجهة مع الكيان الصهيوني، بقطع النظر عن دفوعات معارضي نظامها من أنه، مع توجهه البعثي، لم يعمل على استرجاع الجولان ولم يطلق رصاصة واحدة من أجل هذا الهدف؛ ثم، وهذا الأهم بعد سقوط النظام البعثي العراقي ، لم يبق إلا هذان النظامان لمرور الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها، وعلى رأسهم إسرائيل، مباشرة إلى الأهداف الاستراتيجية الواضحة، دون إلزامية المرور بالمراحل التكتيكية التي تُلْزِمُها بالتعامل وقتيّا مع من تسميهم أعداء مع تأجيل التنفيذ.ويبدو أنّ ساعة التنفيذ والحسم قد حانت ولا رجعة فيها. ولعل الانسحاب الأمريكي- وإن لم يكن نهائيا من أفغانستان- يؤشر إلى هذه الفكرة، كما أن إعلان رأس السنة عن انسحاب- أيضا شبه كامل- للجنود الأمريكيين من العراق لا يخرج عن هذا الإطار. فبقاء أمريكا بكامل قواتها في العراق مقابل شبه إعلان حرب على سوريا سيضع حياة جنودها في مرمى خطر الرد السوري، أوّلا لطول الحدود مع العراق، وثانيا وهذا الأهم، سيجعلهم طعما سهلا ومكشوفا لإيران وقواتها العسكرية وشبه العسكرية، ولا يخفى على أحد النفوذ الإيراني الشيعي داخل العراق؛ وبناء على ذلك، لم يكن إعلان خروج الأمريكان من العراق قرارا سياديا من قادة هذا البلد "العراق"، ولا اعتباطيا من القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية.القرار جاهز لا ينتظر استعدادا خاصا لأن المسألة التقنية والجاهزية العسكرية واضحة، بل وحتى الحلفاء جاهزون، إسرائيل بطبيعة الحال وبريطانيا كعادتها، وليس أدل على ذلك دخول غواصة بريطانية للخليج بالتزامن مع المناورات الإيرانية! ولكن كعادة القوى الكبرى في توفير الأسباب القانونية وفرضها على الدول الضعيفة انطلاقا من عقر دارها من خلال مبعوثيها الخاصين ووُصولا بكل ثقة إلى رحاب الأممالمتحدة، لن تجد الولاياتالمتحدة عناء في الوصول إلى ما يسمى الشرعية الدولية لاستكمال مشروعها في سوريا تماما كما حدث في العراق.ولكن هل تعمل أمريكا على سقوط نظام بشار الأسد فقط، وفرض أجندة الطرف الأقوى في المعارضة وهم الإخوان الذين عبروا صراحة عن ترحيبهم بالتدخل الأجنبي عبر إشارات زعيمهم كقبوله مثلا التصريح لوسيلة إعلام إسرائيلية؟ لا نظن أن كل هذه "التضحيات" الأمريكيةبأفغانستان والعراق ستكون فقط من أجل الإطاحة بالنظام السوري! ستعمل على ضرب أنظمة وأحزاب معارضة لها بتدخل عسكري مشروع واحد. سوريا، إيران وحزب الله في مرمى رماية واحد وهذا يعني بوضوح لبنان في تجاذباته الطائفية ونفوذ الدول الكبرى فيه .إن خطاب الرئيس السوري كان واضحا، لقد فهم قواعد اللعبة، وهي أنه مهما فعل سيبقى رأس النظام مطلوبا، لذلك كان مناورا حذرا، وخاصة ذو خطاب قوي بقوله "سأتحمل مسؤوليتي تجاه شعبي"، وهذا لا يتأتى من فراغ أو من مكابرة، بل من قراءة صحيحة لمجريات الأمور وللتحالفات. لقد استوعب جيدا أنه ليس أمام أزمة قد يتخطّاها، بل أمام مواجهة مباشرة ستكون نتائجها مباشرة على نظامه وعلى المنطقة ككل. التدخل الامريكي وإن بشرعية- كالعادة- أممية، لن يكون سوى بداية لحرب "نصف" عالمية تجمع حلف الناتو في مواجهة إيران شبه النووية، وحزب الله وسوريا التي لن تتوانى عن توجيه كل أسلحتها نحو إسرائيل .