ما يحدث الآن لمدينة القدس ما هو إلا عملية فصل جغرافي، ديمغرافي، عنصري، ديني، عقائدي، تاريخي، حضاري، ارثي وتراثي لم تعهده المدينة المقدسة من قبل، فالنشاط الاستيطاني في القدسالشرقية قائم على أشده ببناء آلاف الوحدات السكنية للمستوطنين، والاستيلاء عنوة على بيوت وممتلكات المواطنين الفلسطينيين المقدسيين وطردهم بالقوة منها، ثم إحلال المستوطنين محلهم، بالإضافة لحملة هدم المنازل المستمرة منذ احتلالها عام 1968 بحجة منح تراخيص للبناء وفرض ضرائب باهظة على المنازل المقدسيين، هذا من جانب ومن جانب آخر لم تكف سلطات الاحتلال عن سرقة الآثار والمعالم الحضارية والتاريخية الإسلامية والمسيحية وتنسبها إلى حضارتها المصطنعة الزائفة بهدف طمس المعالم الإسلامية والمسيحية، بل لازالت تحفر الأنفاق والممرات التي أصبحت أشبه بمدينة كاملة تحت الأرض التي تشكل خطرا مباشرا على المباني القديمة وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك. وبالتدرج قليلا لمعرفة بعض من هذه الحقائق التي تطبقها سلطات الاحتلال على ارض الواقع في المدينة المقدسة نجد أنها كالتالي: تقصد سلطات الاحتلال بالفصل الجغرافي إنشائها لجدار الفصل العنصري الذي يلف المدينة ليعزلها عن محيطها العربي وبذلك تكون قد عزلت 250 ألف مقدسي بالكامل عن المدينة، وهاهي تخطو خطوة أخرى على طريق تهويد المدينة بالاستيلاء على باب المغاربة وإنشائها جدارا ضخما شاهقا بالقرب من حائط البراق يحجب الرؤيا تماما على المسجد الأقصى المبارك كي يحلو لها ما تريد فعله بالمسجد الأقصى ومن حوله. وأما الفصل الديمغرافي فيتمثل في نقل منشآتها العسكرية من داخل الخط الأخضر إلى القدسالشرقية كي تحولها إلى ثكنة عسكرية مركزية، وتعتبرها أسرع طريقة لتحقيق نظرية التطهير العرقي بضيق الخناق على المواطنين العرب كي تجبرهم كرها على الرحيل منها بهدف تفريغ المدينة كاملة من العرب وتكون بذلك قد حققت حلمها بنيل الاعتراف الدولي لضمها مدينة القدس بشطريها الغربي والشرقي وجعلها عاصمتها الرسمية. إن ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلية من إجراءات أحادية الجانب يتجاهل تماما حقوق المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين في المدينة المقدسة، ويفرض وجهة نظر دينية واحدة هي وجهة النظر اليهودية من خلال منطق العربدة والقوة الاحتلالية، وهو منطق يتنافى تماما مع أي مفهوم مقبول للسلام العادل والشامل في المنطقة، لكن رغم انف الاحتلال تبقى مدينة القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وتسري على المدينة كل القرارات الدولية التي صدرت بخصوص مقايضة الأرض بالسلام، وأن كل الإجراءات والقرارات أحادية الجانب التي اتخذتها سلطات الاحتلال بضم القدسالشرقية، وكذلك النشاطات الاستيطانية فوق أراضي القدس كلها باطلة ولاغيه، ولا تلزم الفلسطينيين ولا الرأي العام العالمي ومؤسسات الشرعية الدولية الإقرار بها. وإذا كانت سلطات الاحتلال تظن أنها من خلال سياسة الفصل الجغرافي والديمغرافي وتكثيف الاستيطان على مدينة القدس يمكن أن تخلق أمرا وواقعا جديدا قد يقبله الفلسطينيون، فهي مخطئة الظن، لأن الحق الوطني والديني والتاريخي والحضري الفلسطيني والعربي في القدس ثابت لا يمكن تغيره، ولا يسقط بالتقادم أو مرور الزمن، بل تكون مخطئة في حساباتها إذا اعتقدت يوما، مهما تقوم به من تزوير للحقائق أو اللجوء إلى منطق القوة والعربدة، أن الفلسطينيين أو العرب سيفرطون في هذا الحق أو يساومون عليه. فالفلسطينيون متمسكون بحقوقهم الوطنية والدينية والحضارية والتاريخية والتراثية في القدس مهما كلفهم الأمر حيث يعتبرونها عاصمة دولتهم العتيدة، وأن ارتباطهم العضوي والروحي بالمدينة المقدسة غير قابل للفصم أو الانتزاع. فالقدس عبر التاريخ هي قلب فلسطين النابض، والرئة التي يتنفس منها كل فلسطيني. وهي ليست مجرد مدينة عادية بالنسبة لشعبنا، وإنما هي البقعة المقدسة التي تهوي إليها قلوب المؤمنين من أرجاء العالم، فهي أولى القبلتين وفيها ثالث الحرمين الشريفين، وكنيسة القيامة وعديد من المواقع الدينية والتاريخية الخالدة خلود الدهر التي تنطق باسم المسلمين والمسيحيين. فكيف سيتجرأ أي من كان التفريط بالمدينة المقدسة أو التخلي عنها؟ فلا يعتقد أحدا أن هذا قد يحدث يوما ما. وتأكيدا على هذا الحق فقد رفض المجتمع الدولي عام 1980 كليا قرار الكنيست الإسرائيلي ضم مدينة القدس وإعلان المدينة "عاصمة أبدية لإسرائيل"، فلم تعترف أي دولة بقرار الضم، وما زالت دول العالم ترفض نقل سفاراتها إلى القدس بشطريها الشرقي والغربي. لكن هذا لا يكفي على الصعيد الدولي وإنما يجب على المجتمع الدولي والعالم العربي الضغط بكل الوسائل والإمكانات على دولة الاحتلال الإسرائيلية لوقف تهويد المدينة، على أن يرتفع الصوت الفلسطيني والعربي والدولي منددا بالإجراءات الانفرادية الإسرائيلية. نعم دولة الاحتلال تحتاج إلى هزة عنيفة لوقف زحفها إلى القدس. وليس المقصود هنا أن الاحتجاجات الكلامية قد تكون كافية لوقف المخططات الإسرائيلية الاستيطانية في القدس، بل إن المجتمع الدولي يمتلك الوسائل الفاعلة والقادرة على وضع حد للممارسات التهويدية والاستيطانية الإسرائيلية في القدس.