في القرآن الكريم تنديد بالاختلافات، وتحريض على الصلح بين الناس: ?وَالصُّلْحُ خَيْرٌ? (النساء:128)، وجاء الهدي النبويُّ للحثِّ على الألفة والتآخي، والمطَّلع عليه يعجب: كيف يكون لدى المسلمين كلُّ تلك النصوص الهادية المرشِّدة من كتاب الله والأحاديث والسيرة العطرة، ولا يجدون عند الاختلاف -مهما صغر- إلا التصادم والتصارع. وهنا ينبغي البحث عن جذور ثقافة الاختلاف، فهل للاختلاف بين المسلمين والعرب –بالذات- ما يمكننا تسميته «ثقافة الاختلاف»؟ إنَّ فهمًا خاطئًا لبعض القضايا الأساسيَّة في عصورنا المتقدِّمة ساعد في تأسيس «ثقافة الاختلاف» والتأصيل لها، وقلَّل من أهمِّيَّة احتواء الاختلافات وفضِّ المنازعات، وساعد على تأجيجها وتكريسها، ومن بين الأفهام الخاطئة فَهْمُ البعض لقوله تعالى: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? (هود:118-119)، فكثير من المفسِّرين ربطوا اسم الإشارة «ذلك » بالاختلاف، وجعلوه -بأنواعه وبدون تفاصيل أو تحفُّظات- غايةً إلهيَّة، وليس الأمر كذلك، فالله تعالى خلقهم للهداية، وأناط بهم مهامًّا جسيمة لا يستطيعون-وهم مختلفون- الوفاء بها؛ كإعمار الكون المحتاج لتعاون البشريَّة وتكافلها، وإقامة العدل، ونشر قيم الحقِّ والخير والجمال فيه، فكلُّها أمور يقوم بها المتضامنون المتآخون المتحابون المتكافلون في السرَّاء والضرَّاء، المؤمنون بوحدة البشرية أسرةً ممتدَّة، ووحدة الأرض بيتًا آمنًا لهم؛ فسوء الفهم جعل الاختلاف غايةً ومقصدًا، فإذا لم يختلف الناس ولم يتنازعوا فكأنَّ الغايةَ لن تتحقُّق. وهناك أمر آخر أسَّس لاتجاهات الاختلاف وبناء ثقافته، هو إيمان بعض النّاس بقدرتهم على الإحاطة بالحقائق، فإذا بدا لهم رأيٌ أو موقف اعتبروه حقيقةً مطلقةً، واعتبروا كلَّ مخالف خارجًا عن الحقِّ مستحقًّا للنار والدمار والإبعاد والعزل عن الأسرة البشرية، ونجد شيئًا من تفسير للاختلافات الناشئة في عالمنا الإسلامي، تبدأ صغيرةً كمستصغر الشرر وسرعان ما تنمو ويتوقَّف العقل أمامها لتعمل العواطف والأهواء بتصعيدها وإشعال أوارها، فتصبح أزمةً مستفحلةً مستبسلة يستعصي حلُّها. قلِّب الطرف في بلدان المسلمين وانظر اختلافاتهم، واطرح ما شئت من أسئلة حول أسبابها، لتكتشف أنَّها أصلاً أسباب لا تستدعي واحدًا من الألف من نتائجها التي قادت إليها، فالاختلافات هيمنت على علاقات الحكَّام والشعوب والعلماء والعامَّة، والعلماء فيما بينهم، والعامَّة في مختلف مستوياتهم، والأحزاب السياسيَّة، والحركات الدعويَّة، والنقابات الفئويَّة، وكأنَّ الناس لا يمكنهم العيش إلاّ في ظلال فرديَّة مطلقة، تجعل من كلِّ فرد كيانًا قائمًا بذاته، يستعيض بها عن الأمة والشعب والدولة والأسرة، وسائر مستويات الائتلاف، وهذه الظاهرة تحتاج لعلاج سريع وإلا فستُهلك الأخضر واليابس، وعلاجها لن يكون بمجرَّد الوعظ والنصح والإرشاد، فذلك كلّه جزءُ العلاج، فلا بدَّ من آليَّات دقيقة تبدأ بالطفولة الأولى ولا تتوقف، تُعلِّم الناس ثقافة أخرى للاختلاف تُزيل من الأذهان والعقول الإحساس بإمكان أيِّ إنسان الإحاطة بالحقيقة المطلقة، فذلك شأن العليم الخبير، وتعلِّم الناس أنَّ تعدُّد المواقف والرؤى -بتعدُّد زوايا النظر- إنَّما هو أمر إنسانيٌّ لا يجعل الحقَّ باطلا ولا الباطل حقًّا، ثقافة تتجاوز مبدأ الثنائيَّتين: حقٌّ باطل، صواب خطأ، أسود أبيض، بل تنظر إلى الألوان الأخرى لتعرف أنَّ هناك ما لا يندرج منها تحت طرفي الثنائية، فهل يستطيع المسلمون وعقلاؤهم وجامعاتهم ومنابرهم وفضائياتهم بناء ثقافة مغايرة للاختلاف؟ تسمح بصيانة ما تركته الصراعات والنزاعات والاختلافات من مقومات وقدرات الأمَّة على البقاء؟ نسأل الله التوفيق لتحقيقه وإيجاده، لنرى ثقافة للاختلاف تسمح بالتسامح والتعايش، وتؤمن بتعدُّد زوايا النظر ووسائل الرؤية، لتجمع الكلمة، وتوحِّد الصفوف، وتزيل وحشة القلوب، وعن الإسلام والمسلمين والمواطنين ظلمات أسباب الاختلاف وثقافتها، إنَّا لمنتظرون.