"تزدان القوانين وتكتسب قيمتها مع صلاح المبدأ. ذلك أنه ما أن تفسد مبادئ الحكومة حتى تصبح أفضل القوانين أسوأها. وحينما تصلح تلك المبادئ يصبح لأسوأ القوانين فاعلية القوانين الأفضل. إن قوة المبدأ هي التي تؤدي إلى كل شيء". من نافل القول أن يقبل المترشح السياسي المستقل نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، خاصة وأنه ينتمي إلى مجتمع ثائر ما زال في خطواته الأولى نحو النماء السياسي والتشبع بالتعددية والتنوع والاختلاف، ويلزمه الكثير من الوقت والمحطات حتى يتعود بالممارسة الديمقراطية والتداول السلمي على المناصب. من البديهي أيضا أن يهنئ الفائزين ويشكر المتعثرين وينوه بمجهودات المنظمين، خصوصا وأنه يناضل من أجل احترام إرادة الشعب وفي سبيل تمتعه بحريته وسيادته وكرامته ويحرص على المشاركة الفعلية في المنعطف التاريخي الذي يمر به بلده بعد ثورة 14 جانفي ويسعى إلى القطع مع تقاليد الماضي الشمولي وإلى غرس شجرة الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم المواطنة في حضارة اقرأ وأمة الضاد. لكن كيف تقرأ هذه الانتخابات؟ وماهي الدروس الفلسفية المستفادة؟ وأي مستقبل للتجربة الديمقراطية في تونس؟ إن أسباب فوز بعض الأحزاب والقائمات هي امتلاكها لآلة انتخابية رهيبة وتغلغلها بين الناس واتصالها المباشر بالقاعدة الجماهيرية عن طريق الملصقات والمطويات ومنابر الحوار والاجتماعات والمقابلات الفردية وقدرتها على استثمار آليات الإشهار والدعاية وتركيزها على إثارة عواطف العموم وميولاتهم. كما تمتلك هذه الأحزاب الفائزة المال والرجال والرصيد النضالي أحيانا، والبرنامج التفصيلي حينا آخر، ولكنها راهنت على نظافة اليد والطهارة الثورية واستعطاف الناخب من جهة العامل الديني والانتماء الوطني والشعور القومي، واختارت الطرق السهلة في التعامل والحوار وركزت على تلبية الانتظارات وإرضاء التوقعات، وقدمت جملة من الوعود وطمأنة الرأي العام وكسب ود وثقة المواطنين، وقللت من بواعث الخوف ومن مهاجمة المنافسين، ووظفت الذاكرة السياسية وما سجله المخيال الشعبي من ملاحقات وتعذيب وطرد وعقاب جماعي من طرف النظام البائد لمناضليها وركزت على التوبة وصحوة الضمير. أما أسباب التعثر بالنسبة إلى غالبية المشاركين من جميع مكونات وتيارات الطيف السياسي فهي راجعة إلى ندرة التمويل ورداءة التنظيم وعوائق طبيعية وخلافات هيكلية وصعوبات تاريخية ناتجة عن تشتت بعض العائلات، وخاصة القومية واليسارية والليبرالية وتفرقهم إلى عدة ملل ونحل ، وصراع على الزعامة والقيادة والبروز والظهور والترؤس، والمزايدة الثورية والتفاخر بالطليعية والانتماء إلى الصفوة، ويرجع التعثر كذلك إلى نخبوية البعض الآخر وابتعادهم عن الواقع الاجتماعي وتركيزهم على الجهات المتمدنة والساحلية. علاوة على غموض العبارة وصعوبة الخطاب وفقدانهم للتجربة السياسية الانتخابية وعجزهم عن استمالة السامعين وضعف الفاعلية التأثيرية لديهم، وغياب الرموز المناضلة عن الشارع الانتخابي، وتركيزهم على الواقعية والحقيقة الباردة وابتعادهم عن إطلاق الوعود، واجترارهم لنفس الموال الإيديولوجي المتآكل وتبشيرهم بالمشروع الطوباوي الحالم الذي أثبتت الأيام غلطه وفشله.