بدأ الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، عهده بتقديم أجندته السياسية كوسيلة "لجعل هذا القرن قرنا أمريكيا جديدا"، ولكن تصريحاته أثناء زيارته لأوروبا (مايو 2011)، عكست قناعته بأن علي "القيادة الغربية أن تتكيف مع الواقع العالمي الجديد". بذلك، انضم أوباما إلي ما يشبه الإجماع بين الساسة والأكاديميين، في مختلف أنحاء العالم، علي أن تحول الثروة والقوة عن الدول الغربية إلي دول الشرق والجنوب قد وصل إلي نقطة اللاعودة. فعلي المستوي الاقتصادي، صرح بن برنانكي، رئيس البنك المركزي الأمريكي، في محاضرة مهمة في نوفمبر 2010، بأن مجمل إنتاج الاقتصادات الصاعدة، في الربع الثاني من عام 2010، قد زاد بنسبة 41% عما كان في بداية عام 2005. وقد بلغت الزيادة نسبة 70% في الصين، ونحو 55% في الهند. أما في الاقتصادات المتقدمة، فقد كانت الزيادة لا تتجاوز 5%. لقد تجاوزت الاقتصادات الصاعدة الأزمة الاقتصادية بسهولة، ولكن آثارها كانت كارثية علي الدول المتقدمة. كما اضطرت الدول الغربية، تحت ضغط مشكلة الديون، إلي تقليص حجم قواتها العسكرية وإنفاقها علي التسلح، بينما اتجهت الدول الصاعدة، خاصة في آسيا والشرق الأوسط، إلي استخدام قوتها الاقتصادية في تدعيم قدراتها العسكرية، عن طريق صفقات تسلح ضخمة. ويشير تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية لعام 2011 إلي أنه أصبح من الواضح أن الولاياتالمتحدة والقوي الغربية الأخري في طريقها لأن تفقد احتكارها لأنواع مهمة من تكنولوجيا الدفاع لصالح هذه الدول الصاعدة. كما أن الصين بصفة خاصة تتجه باطراد إلي عبور الفجوة في مجال التكنولوجيا العسكرية مع الغرب. تشكل هذه التحولات في القوة الاقتصادية والعسكرية، وما يصاحبها من نفوذ سياسي علي الساحة الدولية، ما وصفه أوباما ب-"الواقع العالمي الجديد"، الذي أصبح يهدد قواعد وأسس النظام الدولي الذي تشكل بعد نهاية الحرب الباردة. وقد وصف أستاذ التاريخ، نيل فيرجسون، هذا الواقع الجديد، في محاضرة ألقاها أخيرا، بأنه نهاية لعصر من السيطرة والصعود الغربي، في مقابل أكبر وأسرع ثورة صناعية شهدها العالم تجري علي أرض الصين، والتي من المقرر أن تتجاوز الولاياتالمتحدة كأكبر اقتصاد في العالم في المستقبل القريب. لقد كان من المتوقع أن تصل الصين إلي المركز الأول بحلول عام 2040، ثم تمت إعادة النظر في هذا التقدير، نظرا لسرعة الصعود الصيني، وأصبح التاريخ المقدر هو 2027. والآن، تشير بعض الدراسات إلي أن ذلك قد يحدث خلال السنوات العشر القادمة. دفعت هذه التغيرات الضخمة والسريعة العديد من المحللين لمناقشة تداعياتها المنتظرة علي تماسك النظام الدولي. وقد وضع تقرير مجموعة أوراسيا عن أهم المخاطر التي ستواجه العالم في 2011، التغير في النظام العالمي نفسه علي رأس القائمة. يشير التقرير إلي أن العالم علي أعتاب نظام عالمي جديد تماما، بما يعنيه ذلك من طرق جديدة للتفاعل بين الدول علي المستويين الاقتصادي والسياسي. ويكمن الخطر في أن نطاق التغيير ممتد بشكل شديد الاتساع، مما يجعل من إدارته مهمة عسيرة. عالم ما بعد الغرب".. خريطة جيوستراتيجية جديدة: في مقاله "الحركة نحو عالم ما بعد الغرب"، يلقي سيمون سيرفاتي، أستاذ العلاقات الدولية، نظرة شاملة علي اللاعبين الرئيسيين في عالم ما بعد الغرب والعلاقة بينهم. يقرر الكاتب في البداية أن عصر الأحادية القطبية قد ولي إلي غير رجعة، كما يستبعد أن يعود العالم إلي حالة من الثنائية القطبية. فرغم تراجع القوة الأمريكية، فإنه ليست هناك أي قوة دولية أخري قادرة علي فرض الهيمنة عليها، أو حتي الوصول إلي موقع الندية معها. واقع العالمي الجديد إذن يتسم "باللاقطبية"، حيث تتعدد فيه القوي الصاعدة بشكل غير مسبوق، بالإضافة إلي العديد من الدول التي، وإن كانت أقل حجما، فإنها تكتسب، لأسباب مختلفة، نفوذا متصاعدا علي الساحة الدولية. يري الكاتب أن هناك اليوم حاجة ملحة لصياغة هيكل جديد للنظام العالمي، حتي يمكن استيعاب هذا العدد الكبير من الفاعلين المنتشرين بشكل غير مسبوق في جميع أنحاء العالم. لقد كانت التجارب التاريخية الغربية السابقة في إعادة تشكيل النظام الدولي تتم عادة من خلال إعادة تدوير الصياغات القديمة المتعلقة بتوازن القوي ومصلحة الدولة، بدلا من إنشاء صياغات جديدة، ولكن مثل هذه المقاربة لن تصلح في عالم القرن الحادي والعشرين. إن غياب أي شكل من أشكال القيادة في عالم متعدد القوي يوجد مناخا من الفوضي، وربما يكون محفوفا بالمخاطر. فهناك مصالح متشابكة قد تدعم التعاون فيما بين الأقطاب المتعددة، لكن اختلاف الرؤي والمناهج فيما بين هذه الأقطاب يجعل الخريطة الجيوسياسية حافلة بالتناقضات وعدم الوضوح. وسوف تصبح عملية اختيار الحلفاء والأصدقاء، وردع الخصوم، وتفادي النزاعات، في ظل هذا الوضع العالمي الجديد، شديدة الصعوبة. الفاعلون الرئيسيون: الولاياتالمتحدة: رغم التراجع في قوتها، ستظل الولاياتالمتحدة تتمتع بقدر من القوة لا تتمتع به أي دولة أخري علي الساحة الدولية. ورغم أنها لن تستطيع فرض هيمنتها علي المجتمع الدولي مرة أخري، فإنه أيضا ليس من المطلوب أن تنسحب من الساحة، حيث يظل دورها محوريا في إضفاء قدر من التنظيم علي الفوضي الدولية. الاتحاد الأوروبي: لقد نجح الاتحاد الأوروبي في إنشاء نموذج يحتذي به في الحوكمة ما بعد الحداثية، ولكنه يعاني حاليا عددا من الأزمات الحادة التي تهدد بسقوطه في حالة من الشلل، لا تقل خطورة عن تفكك المشروع الأوروبي نفسه. وسوف تتوقف قدرة أوروبا علي لعب دور عالميرئيسي علي الخطوات التي تتخذها لمواجهة مشاكلها في السنوات القليلة القادمة. روسيا: رغم أن روسيا ليست مثل "أي دولة أوروبية"، فإنها تظل قوة رئيسية علي الساحة الأوروبية. وليس من الممكن أن تتجاهل أوروبا روسيا، فهي قريبة جدا، وعندها قدرات نووية وعسكرية، وغنية بالموارد، كما أن لديها شعور بالغبن والرغبة في استعادة مكانتها المفقودة. لكل ذلك، ليس من مصلحة أوروبا استفزاز روسيا. المثلث الآسيوي: الصين: تعد الصين قوة عظمي علي المستوي الاقتصادي، لكنها تواجه مشاكل متعددة علي الصعيدين الاجتماعي والسياسي. تمارس الصين، بشكل واسع وغير مسبوق دوليا، دبلوماسية "الأموال السائلة"،مما أدي إلي أن تمتد مصالحها الحيوية إلي مختلف أنحاء العالم. فقد وعدت الصين اليونان والبرتغال وإسبانيا بأن تساعدها في اجتياز أزماتها المالية. كما نمت تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية بمقدار عشرة أضعاف في الفترة ما بين عامي 2000 و 2007، وتجاوزت 142 مليار دولار عام 2008. من ناحية أخري، تمتد حدود الصين لنحو 10 آلاف ميل مع 14 دولة مختلفة، مما يمثل عبئا أمنيا. وتتقاطع مصالحها مع مصالح القوي المجاورة في عدة مناطق. فهناك تقاطع في المصالح بين الصين وروسيا في آسيا الوسطي، ومع أوروبا والولاياتالمتحدة فيما يتعلق بإيران وافغانستان وكوريا الشمالية. كما أن للصين نزاعا حدوديا مع الهند، وتتقاطع معها في المصالح في باكستان وسيرلانكا. وهناك عداء تاريخي بين الصين واليابان، لا يزال يلقي بظلاله علي العلاقة ما بين البلدين. الهند: هي ثالث أكبر اقتصاد في آسيا. ورغم أنها قد اجتازت الركود الاقتصادي بنجاح، فإن مركزها الاستراتيجي في آسيا محفوف بالمخاطر، ويلقي عليها أعباء كبيرة. فقد دخلت الهند في نزاعات مسلحة متكررة منذ عام 1947 مع باكستان، وبنجلاديش وسيرلانكا والمالديف، بالإضافة إلي حربها الحدودية القصيرة والمهينة مع الصين عام 1962. في الهند 300 مليون مواطن، يعيش الواحد منهم علي أقل من دولار في اليوم، و 70% من سكانها تحت سن 35، و50% تحت سن العشرين. وهناك تعددية عرقية وإثنية ودينية كبيرة، مما أدي إلي مطالبة عدة مناطق بالانفصال عن الهند، خاصة في ظل غياب جهود التنمية عن عدد كبير من هذه المناطق. كل هذه المشاكل تضعف من التوقعات القائلة بصعود الهند إلي مركز نفوذ عالمي في المستقبل القريب. وحتي الآن، تعد كل من الصين والهند قوي إقليمية، لم تصعد بعد إلي مرتبة العالمية. اليابان: وهي الضلع الثالث في المثلث الآسيوي، وكانت حتي منتصف عام 2010 ثاني أكبر اقتصاد علي مستوي العالم. ولكنها تعاني منذ سنوات تراجعا اقتصاديا، وعدم استقرار سياسي، بحيث يبدو أن الزمن قد تخطاها لصالح جيرانها الآسيويين. ويمكن لليابان أن تلعب دورا أكثر فاعلية علي المستوي الإقليمي، خاصة لو قامت بتطوير قدراتها العسكرية. وقد يتيح لها ذلك أن تحتل مكانة متميزة علي الصعيد الآسيوي، وأن تظل شريكا فاعلا في تحالف غربي داعم للاستقرار علي المستوي الإقليمي. بالإضافة إلي هذه القوي، هناك مجموعة من الدول الأصغر حجما، والتي في طريقها إلي اكتساب قدر معتبر من النفوذ علي الساحة الدولية. وتعد البرازيل الدولة الأبرز في هذه المجموعة. ومن دول هذه المجموعة أيضا تركيا وجنوب إفريقيا وإندونيسيا. يري الكاتب أن مكانة ونفوذ الدول علي الساحة الدولية، في الوقت الحالي، أصبحا لا يقاسان بالمعايير التقليدية مثل الإنفاق العسكري. كما أنه لم يعد من الممكن تجاهل أي منطقة جغرافية، لأنها بعيدة أو ضعيفة أو صغيرة، بحيث لا يتوقع أن يكون لها تأثير يتجاوز محيطها المباشر. ولن يكون من السهل إدماج كل هؤلاء الفاعلين الدوليين، بخلفياتهم الثقافية المتعددة، ورؤاهم المختلفة لمكانتهم في العالم، في نظام عالمي جديد. ولكنه أيضا ليس من الضروري أن تمنع هذه الخريطة الجديدة من تطوير إطار جديد ومستقر للنظام العالمي. وبالمقارنة، فقد كانت خريطة النظام الأحادي القطبية تبدو بسيطة، ولكن ثبت أنها أرهقت الولاياتالمتحدة، وكانت خريطة النظام الثنائي القطبية تتميز بالاستقرار، لكنها ظلت محفوفة بالمخاطر."