معالي الدكتور/ سليمان بن عبدالله أبا الخيل الحمد لله الذي منّ علينا بإنزال القرآن, وهدانا بما فيه من الوحي والبيان, وأتم علينا نعمته ببعثة سيد ولد عدنان, فاللهم لك الحمد حمدًا يليق بجلال وجهك وكريم آلائك, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه, أما بعد: فإنه لمن دواعي سروري, وغاية ابتهاجي أن أسهم بهذه الخواطر والمشاعر عن هذا الملتقى العالمي الذي يشرف برعاية خادم البيتين, ومطبِّقِ شرع الله النابع من الوحيين, وحامي وطن الحرمين, خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز -أيده الله وحفظه-, هذا الملتقى الذي يجمع أمهر وأشهر الخطاطين في العالم, الذين سخّروا هذه الموهبة لخدمة كتاب الله العزيز, وإظهاره في أبرز حلة, وأبهى شكل, ليأتي هذا الملتقى في سلسة الجهود الجبّارة, والأعمال الجليلة, والخدمات المتميزة لكتاب الله جل وعلا , وإن أي مواطن شرف بالانتماء إلى هذا الوطن الغالي, وعايش مثل هذه الجهود الكبيرة ليشعر بالفخار والاعتزاز وهو يرى مظاهر العناية بالكتاب والسنة من دولة قامت على هذين الأصلين, وحملت لواء نشرهما والدعوة إليهما, والحكم والتحاكم إليهما في كل شؤون الحياة, وتعلن ذلك في كل مناسبة, وقبل ذلك ينص النظام الأساس للحكم الذي نستمد منه دستورية جميع الأنظمة على هذا المبدأ العظيم, والأساس الراسخ, كتاب الله جل وعلا , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وتكون جميع الأحوال والشؤون بل الفعاليات والمناشط تصب في خدمة كتاب الله تعالى وتعلمه وتعليمه وفهمه وتدبره , وكذا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم , وكلها شواهد حق, ودلالات صدق على العناية والرعاية والاهتمام والدعم لكل ما يخدم هذين المصدرين الأساسيين, ويجعلهما أساس التربية والتنشئة للأجيال, فالحمد لله على ذلك. إن ما يميز هذا الملتقى ونظائره في حلقة الجهود المستمرة لخدمة الدين والعقيدة وأساسهما كتاب الله جل وعلا أنها نابعة من استشعار ولاة الأمر -أيدهم الله- وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين, وسمو ولي عهده الأمين - حفظهما الله ذخرًا للإسلام والمسلمين- بضرورتنا إلى هذين الأصلين العظيمين, والأساسين الراسخين الذين تحصل بهما النجاة في الدنيا والآخرة, كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به بعدي لن تضلوا: كتاب الله وسنتي», وخدمتهما بكل أنواع وأشكال العناية والرعاية والدعم, حتى في أدق الأمور مما يرتبط بالشكل والزخرفة والخط, وذلك كله داخل في خدمة كتاب الله وحفظه الذي تكفل الله به في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}, فهو حفظ أصل, وحفظ معان, وحفظ مباني, وتسخير لكل المواهب والمكتسبات في سبيل ذلك, ولا شك أننا بحاجة إلى كل هذه الصور من دعم كتاب الله, كيف لا وهي مرتبطة بأعظم كتاب منزل, لأن القرآن هو حبل النجاة, وهو الدواء والشفاء, {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}, {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء}, نعم إنه شفاء القلوب, وشفاء الأرواح, وشفاء الأبدان, إنه كلام الله وخطابه الإلهي للبشرية, وخاتمة الكتب السماوية, فيه نبأ السابقين, وخبر اللاحقين, فيه الحكم والحكمة والأحكام, مهيمن على الكتب السابقة ومصدق لها, محفوظٌ بحفظ الله من الزيادة والنقص والتبديل, {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون}, جاء في الذروة من البلاغة والإيجاز والإعجاز, فهو المعجزة الكبرى لهذا الدين؛ ذلك أن الأنبياء والرسل قد أوتوا من المعجزات ما على مثلها آمن البشر, أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال: «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة» [رواه البخاري], إنه معجز في لفظه, ومعجز في مبناه, ومعجز في معناه, معجز في أخباره عن الغيوب السابقة واللاحقة, معجز في حكمه وأحكامه, معجز في تأثيره على القلوب فلا يسمعه أحد صح قلبه وألقى سمعه إلا وأخذ بمجامع قلبه, واستحوذ على نياط فؤاده, ولم يشبع منه, وتشهد كل ذرة في جسده بأن هذا كلام رب العالمين, لا يمل ترداده, بل لا يزيده إلا حلاوة ومحبة، وغيره من الكلام يمل من كثرة ترديده, مشتمل على أعدل الأحكام وأعظمها وأشرفها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحاط بها إجمالاًً أو تفصيلاً, {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}, أفلا يستحق هذا الكتاب العظيم أن تتوافر الجهود, وترصد الأعمال التي تصب في خدمته والعناية به, وأن يكرم من يسهم بأي إسهام في خدمته, كيف والإسهام الذي هو موضوع الملتقى جزء من حضارة العرب والمسلمين, وملكة إبداعية, وفن متميز, اشتهر به الحرف العربي, وتداعى أهل هذا الفن لاستعراض مهاراتهم, وتنمية ملكاتهم في أساس لغة العرب, وينبوع تراثهم اللغوي, في الوحي المنزل الذي اجتمعت فيه كل مقومات البقاء, وعناصر الإصلاح والصلاح, فهو أفصح الكتب وأبلغها, وأصدقها وأحسنها بيانًا, وأقومها حديثًا, يعد الحرف جزءًا من إعجازه, ويجد المشتغل به من نفسه سعادة وروحانية, حتى لو كان جهده بالكتابة والشكل. وكتاب هذه منزلته هو مصدر لكل سعادة, والعناية به ودعم لكل ما يحقق الغاية من إنزاله تلاوة وتدبرًا, وعلمًا وعملاً, ودعوة ونشرًا سبب العز والنصر والتمكين في الدنيا والآخرة, والله تعالى يقول: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى*وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}, (طه 123-126) فقد ضمن الله تعالى لمن أخذ بهذا الكتاب وعمل به وطبقه ضمانًا يقرؤه المؤمن في نواحي الحياة أن لا يكون ثمة ضلال في الدنيا ولا شقاء في الآخرة, وما أعظمه من ضمان! نقرأ على ضوئه حفظ الله لبلادنا العزيزة ووطننا الغالي في أمور كثيرة سيما في أوقات الأزمات والنوازل, حينما تدلهم الخطوب, وتستهدف أيدي الغدر والتطرف والتكفير والتفجير والضلالات والاعتصامات والاحتجاجات هذه البقعة المقدسة يحميها الله جل وعلا, ويقيض الله جنود العدل والإيمان, وحماة التوحيد قادة هذه البلاد ليحبطوا تلك العمليات الإجرامية بضربات استباقية, ويتكاتف أهلها ويتعاضدوا ويتوحدوا بهذا الكتاب لتضييق الفرص على الأيدي الآثمة التي تستهدف أمن هذه البلاد ووحدتها ورخاءها, كل ذلك يثبت للعالم هذا الحفظ الذي يعد من صور العناية الإلهية بهذه البلاد وأهلها. وتوجيه الجهود المتنوعة سواء في توجيه الناشئة فتيانًا وفتيات للعناية بهذا الكتاب العظيم وحفظه وتدبره والعمل بما فيه, أو توجيه المؤسسات المعنية بخدمة هذا القرآن حصانة وحماية من كل انحراف, وسبب لنيل الخيرية الموعود بها في قوله صلى الله عليه وسلم : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه», واستشعار المواطنين أن ولاة أمرنا -أيدهم الله- هم من يدعم الجهود القرآنية ويوجهها, ويحرص على تميزها في موائد القرآن لاشك أنه من أعظم مقومات الانتماء والمواطنة الصالحة لهم, ذلك أن هذه العلاقة التي تشكل جزءًا من التصور الشرعي للانتماء الوطني تقوم على المحبة والترابط والتعاون على البر والتقوى, وأعظم البر تلاوة كتاب الله وتدبره والعناية به, فهنيئًا لنا في هؤلاء القادة الأفذاذ, والرجال الأماجد الذين يمثلون القدوة والأسوة لهذا الوطن المبارك. ومجمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة النبوية وهو أحد شواهد العناية والرعاية والدعم من ولاة أمرنا أيدهم الله يقف شامخًا في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم , وتصدر عنه جهود مميزة لا تنحصر في طباعة المصحف الشريف, بل طباعته بأشكال وأحجام وأحرف تغطي حاجة المسلمين في أنحاء المعمورة, وعناية بالقرآن تلاوة بأصوات مشاهير القراء, وترجمة بأشهر اللغات العالمية, وبأدق الترجمات التي تستدعي الجهود السابقة, وتخضعها للدراسة وتفيد منها في إخراج أوفى ترجمات القرآن وأدقها وأعمقها وأشملها, ويأتي هذا الملتقى الذي يعقد في المدينة ليكون جزءًا من حلقات العناية والخدمة المتميزة للقرآن, إذ يجتمع تحت مظلة هذا الملتقى نخبة ممن تشرفوا بكتابة المصحف الشريف, واهتموا برسمه العثماني, وزخرفة القرآن خلدت المصاحف المتداولة جهودهم, ليثبت هذا الملتقى أهمية هذا الفن الإسلامي وروعته, وتميزه وإبداعه على الرغم من لغة التقنية وحوسبة العلوم المختلفة, تلك الرؤية العصرية التي قلبت الموازين, وأحدثت نقلة في عالم الثقافة والمعرفة والتخصص, إلا أن الخط العربي ظل صامدًا أمام هذه التقنية ليتميز باللمسات الإبداعية, والاحتراف المهني الذي لا تطاله لغة الحاسوب, ولا يعني هذا التنافر بينهما, بل يعني التكامل الذي يمثل للخط تميزًا لا يمكن الاستغناء عنه, وللتقنية تطورًا لايمكن التقدم بدونه, ومن هنا فإننا من خلال هذا الملتقى نرى اعترافًا بجهود أشهر الخطّاطين, وإشادة بتميزهم, وهي رسالة للشباب المبدع والطاقات الواعدة أن يلحقوا بهذا الركب لينالوا شرف خدمة كتاب الله عز وجل , والملتقى يهم الجميع؛ باعتبار تعلقه بكتاب الله, ويهم الراصدين لهذه الجهود, كما يهم المعنيين بهذا الجانب الفني على وجه الخصوص, وأملنا أن يسفر الملتقى عن تكامل وتواصل, وإشادة واعتراف بهذا الإبداع المتعلق بأشرف كتاب, وإشادة بالجهد الذي تبذله دولة القرآن في خدمة القرآن, ولا نملك إلا أن نقول: الحمد لله الذي وفق ولاة أمرنا لهذه العناية المتميزة بكتاب الله الذي هو أساس العز والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة, وهذا الملتقى المهم الذي يعقد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ويرعاه خادم الحرمين الشريفين, فمجيء هذا الملتقى ضمن جهود المجمع العالمي تعكس ثوابت الدولة وحضارتها, ويوصل رسالة لجميع من يشهد هذا الملتقى بأن العناية بالقرآن و السنة وحملتهما هي ديدن قيادة هذه البلاد, وأن المملكة العربية السعودية دولة الوحيين, وحاملة لوائهما, وارتباطها بالقرآن والسنة من ثوابتها التي تأسست عليها, لتقوم على نشر هداية القرآن والسنة, وتبذل كل جهد لتحقيق هذا الهدف, وستظل قائمة على ذلك, لأنها تدين لله باتباعهما وتحكيمهما, وشاهد هذه الحقيقة ما ورد في النظام الأساسي للحكم حيث إن فيه مواداً كثيرة تنصّ على اعتماد الأصلين في شمولية انتظمت مناحي الحياة وشؤون الناس. وبعد: فإن هذا الملتقى ليس هو المنجز الوحيد لولاة أمرنا -أيدهم الله- بل هو مثال, والصور كثيرة, والشواهد متعددة تشكل صورة مشرقة, وصفحات مضيئة في سجل إنجازات هذه الدولة المباركة يعزى إليها ما تنعم به هذه البلاد المباركة الطاهرة من أَمْنٍ سابغ, وعيش رغيد, واجتماع وألفة, وقوة وهيبة, فهنيئًا لإمامنا خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- هذه المكرمات والإنجازات, وإن حقاً على كل مواطن بل على كل مسلم أن يلهج بالثناء والدعاء له, بأن يجعل الله هذه الأعمال الصالحة في موازين حسناته, وزاده إلى رضوانه وجنته, وأن يخلفها عليه بركة في عمره وعمله, وأن يتم بها عليه نعمة الصحة والعافية, ونسأل الله سبحانه أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وولاة أمرنا, وأن يجعلهم ذخرًا ونصرًا للكتاب والسنة, وأن يعز بهم دينه ويعلي بهم كلمته, وأن يدفع عن هذه البلاد كيد الكائدين وفساد المفسدين, إنه سميع مجيب, والحمد لله رب العالمين,,, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. *مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية