ليس اختيار هذا العنوان من قبيل الاثارة.. خاصة اذا خطر لبال القارئ الكريم ان يربط بين كلمة (البداوة) وبين مايراه من مسلسلات (بدوية) تبثها بعض الشاشات العربية وهي ابعد ما يكون عن مفهوم البداوة الاصلية. البداوة ليست عملية سعي في البوادي والصحاري والتنقل في الخيام وراء الماء والمرعى، والاحتفاظ بالبندقية لقتال عشيرة عدوة او للأخذ بالثأر.. خاصة وان العالم العربي شهد في النصف الثاني من القرن العشرين نقلة نوعية مهمة في البوادي العربية من حياة الترحال الى حياة الاستقرار.. ومن حياة الرعي الى حياة التمدن. يقول احد الباحثين إن نظرة الثقافة العربية للبداوة، قديما وحديثا، ما تزال نظرة ملتبسة اشكالية تتراوح بين الاعجاب والتنويه بما تعتبره القيم القومية الاصيلة مثل (الشهامة والشرف واخلاقيات الشجاعة والفروسية) من جهة، ومن جهة اخرى الذم والادانة لنمط العيش المطبوع بالشظف والقساوة والتمنع على النظام والاستقرار والمدنية! هذا التراوح بين النظرتين، كان منذ القديم، ولعل الذين قرأوا مقدمة ابن خلدون وقفوا على ما اورد فيها من احكام حولهما يمكن العودة اليهما بالتفصيل. ويؤكد الباحث (السيد ولد اباه) ان الدراسات الانتروبولوجية المعاصرة قد كشفت اوجه التضارب بين منظومتي القبيلة والثقافة الشفاهية والبداوة المتنقلة من جهة، والدولة والكتابة المدنية من جهة أخرى، ويتعلق الامر بتصادم في مستوى المجالات البيئوية والانتاجية والثقافية والمجتمعية والسياسية بما لا مجال لتفصيله. وفي دراستنا لبحثه (دعوة لاعادة اكتشاف البداوة والحفاظ على تراثها، نجد اصراره على ان الادبيات الاجتماعية الحديثة (وهي ذات مصدر غربي) قد سلكت المسلك القديم السلبي في نظرتها للبداوة من خلال التمييز الانثروبولوجي التقليدي بين المجتمعات (البدائية) ذات العقلية الميثولوجية غير التجريدية وغير العلمية وانتاجها الهش (ما قبل الحضاري)، والمجتمعات، المتقدمة، ذات العقلية الموضوعية العلمية المتمتعة بثمار التقنية والحضارة الراقية، وقد نفذت هذه الأحكام على نطاق واسع الى الدراسات الاستشراقية الاولى التي تناولت بنية المجتمع العربي، وعلاقاته العرقية وأنماطه الثقافية. ونجد الاحكام نفسها حتى في بعض الأدبيات الاجتماعية والسياسية العربية التي ظهرت في سباق الدعوة التحديثية الاصلاحية فطالبت بالقطيعة مع أنماط البدوي (المعيقة لتقدم المجتمع العربي وتطوره).. ويصل الباحث بعد ذلك الى المراجعة التي بدأت في العقود الأخيرة لمثل هذه المصادرات والأحكام المتعلقة بالبداوة من خلال رفض مقولات (المجتمعات البدائية) وتجديد النظرة للبداوة من خلال: 1- رصد الثوابت البنيوية في الثقافة البشرية من حيث كونها تلتقي على اختلاف تشكلاتها وانماطها، في الاسس العميقة، الى قواعد التواصل والترابط ومحددات النظرة التفسيرية الاجرائية للطبيعة. 2- النظر في التمايزات الثقافية والفوارق الفكرية والمجتمعية من حيث هي انماط حضارية لكل منها بنيته العقلية ومنطقه الغائي وقيمه الوظيفية. 3- انتكاسة الخطاب العلمي، ونبذ المقولات الوضعية التي تحصر دائرة الحقيقة والمعنى في التجربة والرؤية الموضوعية، ومن ثم الانفتاح على اشكال التعبير الثقافي الاخرى، كالثقافة الشفاهية الثرية والفنية. ان هذه المعطيات هي التي تفسر اعادة الاكتشاف المتأخر للثقافة البدوية في الفكر التاريخي والاجتماعي العربي. ومن هنا تأتي اهمية هذه الدعوة لتحقيق المزيد من اعادة الاكتشاف هذه للبداوة وتراثها الانساني بدل النظرة المشوهة لها، والتي لم يبق منها في الظاهر في حياتنا سوى مسلسلات ملفقة على الشاشة تقدم قصة مشوهة ومختلفة عن حياة البداوة التي تصور مجتمعها على انه خيمتان وبندقية وقصة ثأر.