قدمت مؤسسة الفكر العربي تقريرها الثالث للتنمية الثقافية والذي استهل فاتحته بكلمة من سمو امير منطقة مكةالمكرمة صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي وحوى التقرير الذي يأتي في سبعمائة صفحة من القطع الكبير كافة الشؤون المعرفية في الجوانب الفكرية والثقافية والاجتماعية في الوطن العربي. حين تصدت مؤسسة الفكر العربي منذ ثلاث سنوات لاصدار اول تقرير عربي، بتمويل عربي لرصد واقع التنمية الثقافية في دول الوطن العربي، كان هدفها، وما زال، ان تؤسس لمشروع معرفي تسهر عليه بأناة وصبر ودأب. وكانت وسيلتها أن تهيئ - كما عبّر صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل رئيس المؤسسة - الزمان والمكان لأصحاب الرؤى والأفكار لكي يقدموا رؤيتهم على طريق استنهاض قدرات الأمة. استنهاضاً يتأسس على المعرفة ومراجعة الذات. يجيء هذا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية على غرار منهجية عمل التقريرين السابقين، مختلفا عنهما في المضمون، فمن حيث المنهجية ما زال تقرير هذا العام يسعى لرصد وتقصي واقع التنمية الثقافية في دول الوطن العربي من خلال التركيز - بمنطق وترتيب الأولويات- على أهم مقومات متمثلة في التعليم، والبحث العلمي، والمعلوماتية، وحركة التأليف والنشر، والإبداع بمختلف تجلياته في مجالات الأدب (السردي والشعري)، والمسرح، والسينما، والموسيقى، بالاضافة الى توثيق سنوي للحصاد الثقافي والفكري لما شغل العرب من قضايا وتساؤلات في مؤتمراتهم وملتقياتهم وإعلامهم. يكتسب تقرير هذا العام - كما التقريرين السابقين خصوصيته من اتباع منهج الرصد والتشخيص الذي يعتمد على الرقم والمعلومة والاحصاء والتوثيق كضرورة تسبق المعالجات الأخرى التي تنطلق من التأصيل والتنظير والنقد والاستشراق، وهي مستويات معرفية نؤمن بأهميتها لكن نرى أنها تأتي - ويجب ان تأتي - لاحقة على المعرفة المجردة التي تسبق بدورها كل رأي. لدينا في عالمنا العربي الكثير من فكر «التأصيل والتنظير» الذي يحتاج بالضرورة الى فكر «الواقع والتفصيل» الثاني يمنح الأول المعرفة التي تتيح له القدرة على الاستشراف واقتراح الحلول. إذ من الصعب تقديم حل ناجع لقضة لم يحسن طرحها أو لم تتوافر المعلومات عنها. من هنا كنا نعتقد - ونأمل في الوقت ذاته - ان يكون هذا التقرير السنوي محرضا على اجراء رؤية «جديدة» للواقع العربي تبدأ من الاحاطة بكل جوانب واقعنا المعرفي في التعليم، والبحث العلمي، والمعلوماتية، وحركة التأليف والنشر، والتعرف على حجم منجزنا الابداعي السنوي بالرقم والاحصاء والتوثيق في الادب والسينما والمسرح والموسيقى. ربما نكتشف ان حالنا المعرفي يقدم من الارقام والمعطيات والحقائق ما هو بعيد عن الانطباعات والمجردات التي يزخر بها «فكر التأصيل والتنظير». لكن علينا الاعتراف بأن منهجية عمل هذا التقرير لم تكن دائما يسيرة ولا مفروشة بالورود. فالبحث عن الرقم في عالمنا العربي مهمة عسيرة في ظل غياب ثقافة مؤسسية وبنية تشريعية تكرسان الحق في الحصول على المعلومات وتداولها في اطار واجب من حماية المعلومات المتعلقة بالأمن الوطني والمصالح العليا للدولة. ولئن كانت الملفات التي تضمنها هذا التقرير قد خضعت لمراجعة من مؤلفيه اعضاء هيئة التحرير ومن اعضاء الهيئة الاستشارية وجميعهم من الثقات المجيدين في مجال تخصصهم ثم من فريق المراجعة والتدقيق في مؤسسة الفكر العربي.. فالأمر لم يخل من صعاب ومشاق. وهو ما يوجب علينا ان نكرر دعوتنا السابقة الى ضرورة بذل الجهود العربية وتنسيقها بغية توفير قاعدة بيانات عربية ذات حد ادنى من الشمول والمصداقية. ولعله يبدو غريباً ان مئات الجداول والاحصاءات التي تضمنها هذا التقرير كانت ذات مصدر اجنبي. فأكثرية الارقام التي تقدمها ملفات تقرير هذا العام - باستثناء ملف الابداع - عن واقع المعرفة والثقافة في بلداننا انما تنسب لجهات ومؤسسات اجنبية مثل البنك الدولي، واليونسكو، والاتحاد الدولي للاتصالات، والمنتدى الاقتصادي العالمي، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، وهو امر لا نملك معه سوى التساؤل عن دور مؤسساتنا الوطنية العربية المعنية بتوفير المعلومات والأرقام عن ملفات وقضايا عربية! البحث العلمي في العالم العربي مضمون تقرير هذا العام فهو يختلف عن تقريري العامين السابقين، اذ يتضمن هذا التقرير - وللمرة الاولى - ملفاً حول البحث العلمي في العالم العربي، مؤشرات التخلف ومحاولات التميز، وهو ملف لا يقتصر فقط على معالجة قضية البحوث العلمية والابتكار في العالم العربي، وهي القضية الاكثر اثارة للانتباه، بل يعالج قضيتين اخريين على درجة بالغة الأهمية وهما دور البحث العلمي في الابداع والتنمية، ولا سيما على صعيد المردود المجتمعي والاقتصادي للمعرفة العلمية ووضع الصناعات العربية ومدى استيعابها للابداع. والارقام في هذا الخصوص تبدو لافتة وجديرة بالانتباه. فعلى صعيد براءات الاختراع يتضح ان عدد البراءات العربية المسجلة عالمياً بين 2005 و2009م لم تتجاوز 475 براءة اختراع بينما بلغت في ماليزيا وحدها 566 براءة اختراع، واذا اعتبرنا ان عدد سكان العالم العربي يبلغ نحو 330 مليون نسمة وعدد سكان ماليزيا حوالى 26 مليون نسمة، فإن معنى ذلك ان هناك براءة اختراع واحدة لكل 694 الف عربي بينما تسجل براءة اختراع واحدة لكل 46 الف ماليزي، اي ان معدل الابداع في ماليزيا ما يزيد 15 مرة عن معدل الابداع في الدول العربية مجتمعة. أما على صعيد عدد الباحثين لكل مليون نسمة وفقا للاعداد المتاحة الموثقة في بلد كمصر فإنه يتبين وجود 650 باحثا مصريا لكل مليون نسمة (وهو من اعلى المعدلات العربية) بينما في كوريا الجنوبية يوجد حوالى 4600 باحث لكل مليون نسمة، اي اكثر من المعدل المصري بثماني مرات! وعلى صعيد الموارد المخصصة للبحث العلمي بالنسبة لاجمالي الدخل القومي فان المتوسط العربي (باستثناء السعودية وقطر وهما من اعلى الدول العربية انفاقا على البحث العلمي) لا يتجاوز 0.2% بينما يبلغ في السويد واليابان وفنلندا حوالى 3.4% اي ان دولة من هذه الدول تنفق على البحث العلمي 15 ضعفا مما تنفقه الدول العربية. ولا تخلو هذه المقارنات لحسن الحظ من بعض المؤشرات الايجابية فوفقا لمؤشر تميز وكفاءة مراكز البحوث والتطوير العربية تأتي تونس وعمان وقطر والكويت والسعودية في المراكز ال52 الأول من بين 127 دولة في العالم بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2007-2008م). ولئن كان لا يمكن فصل قضية البحث العلمي في دول الوطن العربي عن دور الجامعات العربية، فإن تقرير هذا العام يعرض بالرقم الموثق والمعلومة المكانة البحثية للجامعات العربية ويسلط الضوء في الوقت ذاته على معوقات البحث العلمي في الجامعات. وهي قضية كثر الحديث عنها في السنوات الاخيرة. ففي احدث تصنيف معلن لجامعة «شنغهاي» (2010) سجلت جامعتان عربيتان فقط اختراقا مميزا لقائمة افضل جامعات العالم. فوردت جامعة الملك سعود من ضمن مجموعة 301-400 جامعة بينما وردت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن من ضمن مجموعة 401-500 جامعة شملها مؤشر شنغهاي العالمي. اما في تصنيف مجلة «تايمز» البريطانية فقد جاءت جامعة الاسكندرية في المرتبة ال149 من بين مائتي جامعة. ولئن كان دور اي جامعة في دعم البحث العلمي يقاس بعدد الابحاث العلمية لاساتذتها في المجالات العلمية العالمية، فإن ترتيب الجامعات بناء على الابحاث المنشورة في الدوريات المفهرسة عالميا في مجموعة (SCOPUS-ELSEVER) يظهر انه من بين 2124 جامعة ومركز ابحاث موزعة على جميع انحاء العالم لا يوجد سوى 23 جامعة عربية فقط (اي حوالى 1%) منها 11 جامعة في مصر و4 في السعودية، وجامعتان في كل من الاردن والإمارات. وواحدة في كل من الكويت ولبنان وسلطنة عمان والسودان، بينما غابت عن هذه اللائحة جامعات عربية عريقة ذات قدرات بحثية وبشرية عالية مثل سوريا والمغرب والجزائر وتونس والعراق. ومن مراجعة ترتيب الجامعات بحسب الابحاث المنشورة لاساتذتها وفقا لمجموعة (SCOPUS-ELSEVER) يتضح انه يوجد في اسرائيل وحدها ست عشرة مؤسسة جامعية او بحثية ما بين الالف الاول في العالم في مقابل خمس مؤسسات جامعية لكل الدول العربية مجتمعة! وعلى الرغم مما يوحي به مشهد البحث العلمي من قتامة في الحاضر العربي، هناك محاولات واعدة تجسدها مراكز التميز التي انشأها بعض الدول العربية مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي، وجامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي افتتحت في العام 2009 والمزودة بحاسوب عملاق ويمكنه اجراء 222 تريليون عملية حسابية في الثانية الواحدة. وفي مصر توجد مدينة مبارك للبحث العلمي، وفي ابوظبي تمثل مدينة مصدر جيلا متقدما من مدن التقنية على الصعيد العالمي، كما انشئ بعض حاضنات الاعمال وما يعرف بحدائق العلم والتقنية في اكثر من بلد عربي لتستقطب شركات عالمية ناجحة وتوفر الكثير من فرص العمل مثل القرية الذكية في مصر (12000عامل) وحديقة الغزالة التونسية والدار البيضاء المغربية (1400 عامل في كل منهما) وهناك حديقة للتقنية الحيوية (بيوستي) وهي في طور الانشاء حاليا. ووادي الرياض للتقنية. وفي قطر اطلق مركز السدرة للبحوث الطبية الذي رُصد لتشييده 8 مليارات دولار امريكي وينتظر ان يبدأ العمل به في 2012م. ولعل التحدي الذي تطرحه هذه المراكز والحاضنات التي بدأت تنتشر في اكثر من بلد عربي هو كيفية توظيفها على النحو الامثل بعيدا عن شباك البيروقراطية الادارية لكي تحقق الآمال المعقودة عليها من خلال الاستفادة من التجار العالمية المشابهة التي حققت نجاحاً في هذا المضمار. تطويع اللغة العربية لئن كان احد التحديثات الحضارية التي يواجهها العالم العربي هي كيفية تطويع اللغة العربية في مجال البحث العلمي وتعظيم استخدامها، فإن رصد واقع لغة الضاد على شبكة «الانترنت» يقدم مجموعة دلالات هامة تستحق النقاش والتأمل. وتظهر احصائيات حديثة تدني محتوى الانترنت من الصفحات باللغة العربية التي لا تتجاوز نسبتها الواحد في الالف من تعداد الصفحات الاجمالي على الشبكة العنقودية. لكن مايبعث على التفاؤل هو التزايد الملحوظ في عدد مستخدمي اللغة العربية على شبكة «الانترنت» وهو الأعلى من مجموعة اللغات العشر الاولى على الشبكة، والذي بلغ 2300% خلال الفترة 2000-2009م. ومن الجدير بالتنويه ان نسبة مستخدمي «الانترنت» من المتكلمين بالعربية تبلغ 3.3% من اجمالي مستخدمي «الانترنت» بكل اللغات. وهي نسبة تزيد على تلك الخاصة بمستخدمي «الانترنت» من المتكلمين بالفرنسية والتي تبلغ 3.2% من اجمالي مستخدمي الانترنت في العالم. لكن ما زال هناك تحديات كبيرة تعيق توظيف التقنية الرقمية في التعامل مع اللغة العربية مثل التلكؤ في اعتماد رموز موحدة للحروف العربية والالتزام الدقيق بحركاتها اذ لم يتسن للدول العربية منذ ستينيات القرن الماضي تبني رموز موحدة لحروف العربية وحركاتها تمهد لتعامل تقنية المعلومات مع اللغة العربية ونصوصها بصورة مجدية. كما لا يوجد نظام للاعراب الآلي والنظم المستخدمة حاليا تعتمد على تخزين انماط الخطأ النحوي على صورة سلاسل من الكلمات المتعاقبة. اما على صعيد محركات البحث مثل «غوغل» فهو لا يراعي الخصائص البنيوية للكلمة العربية. كما لا تخلو برامج الترجمة الآلية من وإلى اللغة العربية من صعوبات، الامر كله يكشف في ظل هذا الواقع الى حاجة عربية ملحة لدعم جهود تطوير استخدام اللغة العربية على شبكة «الانترنت. هجرة العقول العربية ولعل واقع البحث العلمي في دول الوطن العربي يطرح في مشهده الأشمل قضية هجرة الأدمغة العربية الى الخارج التي تمثل نزيفا حقيقيا في العقل العربي. فالأرقام تظهر ان 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لايعودون الى بلادهم. وان 34% من الاطباء الاكفاء في بريطانيا ينتمون الى الجاليات العربية وان مصر وحدها قدمت في السنوات الاخيرة نحو 60% من العلميين العرب والمهندسين في الولاياتالمتحدةالامريكية. كما شهد العراق هجرة حوالى 7300 عالم تركوا بلدهم بسبب الاحوال السياسية والأمنية. واجمالا فإنه منذ العام 1977م وحتى الآن هاجر اكثر من 750.000 عالم عربي الى الولاياتالمتحدةالامريكية. السؤال الآن هو كيف يمكن الحدّ من ظاهرة هجرة الادمغة العربية وما هي سبل تحفيز العلماء العرب على العودة لبلدانهم؟ والسؤال الآخر الاكثر اهمية وربما عقلانية هو: هل من رؤية واقعية تمكننا من الاستفادة من ظاهرة هجرة الادمغة بدلاً من الاكتفاء بشجب آثارها السلبية، وذلك من خلال فتح قنوات للتعاون مع هؤلاء العلماء العرب المغتربين في الخارج؟ الإنترنت وزيادة الوعي الثقافي أما عن ملف التواصل الثقافي العربي عبر شبكة «الانترنت» فهو يعالج قضية هامة وملحة تتعلق بالمحتوى الرقمي العربي وكيفية ادارته والتواصل من خلاله. فهذا التواصل الثقافي الرقمي يتيح عملياً فرصاً لا محدودة في مجال التنمية الثقافية. اذ يُمكن المبدعين ومنتجي الثقافة عموماً من بلوغ آفاق رحبة في مجال انتاج الوعي الثقافي بقدر ما يتيح لمتلقي الثقافة ومستهلكيها فرصاً غير محدودة أيضاً في الحصول على المنتجات الثقافية فور ابداعها اذا كانت جديدة والوصول بها بسهولة ويسر ولو كانت قديمة مضى عليها مئات السنين. والأرقام والمؤشرات التي يتضمنها هذا الملف تبدو مثيرة بكل معنى الكلمة وتكشف عن دلالات لا تخطئها العين: فبينما تحتل كتب «الطبخ» التي يتواصل معها العرب على شبكة الانترنت مركز الصدارة بنسبة 23% من اجمالي كل أنواع الكتب الاخرى فإن المتنبي مازال هو احد اكثر الشعراء العرب المطلوبين على شبكة الانترنت إذ يأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد نزار قباني اما الكتب التي حققت اكثر معدل بحث على شبكة الانترنت في العام 2009 فيتصدرها كتاب صحيح البخاري ثم لسان العرب فرياض الصالحين وصحيح مسلم ونهج البلاغة وفقه السنة! وبلغ معدل البحث على شبكة الانترنت من الثقافة الاسلامية (8270) عملية بحث شهريا قبل البحث عن الثقافة العلمية (3620) والتعليم (2880) والطبيعة (2620) والتربية (1980) والسياسة (900)!! ويكشف لنا ملف التواصل الثقافي الرقمي عن انه في مجال تحميل محتويات رقمية على شبكة الانترنت قام العرب في العام 2009 بتحميل نحو 43 مليون فيلم واغنية بينما قاموا بتحميل ربع مليون كتاب فقط! كما بلغت عمليات البحث التي قام بها العرب في العام 2009 على شبكة الانترنت عن المطرب تامر حسني ضعف عمليات البحث التي قاموا بها عن نزار قباني والمتنبي ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين!! لكن هذا الاستقطاب العربي الحاد على شبكة الانترنت ما بين البحث عن الدين او الاهتمام بالاغاني والافلام لم يمنع القضايا العربية القومية الكبرى من اثارة الانتباه. فقد بلغ متوسط عمليات البحث الشهري التي قام بها العرب عن قضية فلسطين نحو 7 ملايين و445 الف عملية بحث لتستأثر القضية الفلسطينية وحدها بنسبة 46.6% من اهتمام العرب بمجموعة القضايا العربية العامة. اما قضية الوحدة العربية فكان نصيبها من عمليات البحث على شبكة الانترنت 333 عملية بحث في المتوسط شهريا او ما يمثل واحدا في الالف من اجمالي القضايا العربية التي يبحث عنها العرب! وبصرف النظر عما تثيره الارقام والمؤشرات السابقة من الجدل. فالامر المؤكد ان السلوك البحثي لجمهور «الانترنت» العربي اظهر في كثير من الاحيان قدراً من الشغف العام بالثقافة وحمل في طياته نواة جيدة لتواصل ثقافي نوعي يتسم بالتخصص. واللافت في توجهات الجمهور العربي على الانترنت غياب النزعة القطرية او الشوفينية والميل نحو ما هو عربي عموماً. ففي 97% من عمليات البحث على الانترنت كان البحث يتم عن ما هو عربي مشترك وليس قطريا، ولعل ما يتضمنه هذا الملف في نهايته من تأصيل لنقاط القوة ونقاط الضعف في التواصل الثقافي العربي على شبكة الانترنت ما يفتح الباب لدراسات مستقبلية مستفيضة في هذا الخصوص. الإبداعات الفنية في العالم العربي يقدم ملف الابداع في هذا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية رصداً لاهم تجلياته الادبية والمسرحية والسينمائية والغنائية خللال العام 2009 ففي المشهد الادبي مازال فن الرواية العربية يواصل حقبة ازدهاره التي بدأت منذ نحو عقد من الزمان حيث نشر ما يزيد على الثلاثمئة رواية تقدم الى خوض تجربتها الدهشة شعراء ومسرحيون. وفي المقابل بدأ الشعر العربي في العام 2009 مفتقراً الى المتابعة النقدية، فضلا عن تراجع قرائه ومريديه. وبين الرواية المزدهرة والشعر الخافت بدا فن القصة القصيرة مغتربا لدرجة ان تحدث البعض عن «موت» القصة القصيرة! وكان أكثر الاحداث الادبية اثارة في العام 2009 فوز رواية عزازيل للمصري يوسف زيدان بجائزة البوكر العربية، وقد اثار اختيار هذه الرواية بالنظر لخلفيتها الدينية حالة من الجدل الشديد. وبدأت الرواية الخليجية رحلة تأكيد الذات حيث طالبت مؤتمرات روائية في السعودية والامارات والكويت باقامة تجمع للرواية الخليجية. ومازال السجال دائرا في القاهرة بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة في مهرجانين شهدهما العام 2009، وتوجت فرنسا شاعرا عن شعره المكتوب بالفرنسية فمنحت جائزة غونكور الشعرية الفرنسية الى الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي. واصدرت مؤسسة عبدالعزيز سعود الباطين معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين في 25 مجلداً وانعكست الاوضاع السياسية والامنية في العراق على ابداع شعراء بلد الرشيد فأثروا المنفى حاملين اشجانهم يكتبون الشعر بلغات اوطانهم البديلة. وفي المقابل سعى آخرون الى استعادة ذاكرة الوطن البعيد فقام كتاب عرب يعيشون في الولاياتالمتحدة بتشكيل تجمع ادبي للكتاب العرب الامريكيين. ومازال الادب النسوي يثير تساؤلاته ويبحث جاهدا عما يسميه خصوصيته ويصدر توصياته في مؤتمر حول الحرية في الادب النسائي ومن بينها الدعوة بتخصيص جائزة للابداع والنقد النسويين. وفي المشهد السينمائي مازال ضعف الانتاج السينمائي في الوطن العربي هو الملاحظة الأبرز: اذ تسيطر السينما الاجنبية عموما والسينما الامريكية على وجه الخصوص على سوق الافلام المعروضة في الدول العربية. فالسينما الامريكية والهندية والاوروبية تستأثر بنسبة 87% من اجمالي الافلام السينمائية المعروضة في العالم العربي بينما لا تمثل السينما العربية سوى 11% (منها 8% للسينما المصرية) و2% لسينما البلدان الاخرى اما ايرادات دور العرض السينمائي في الدول العربية فمازالت متواضعة وفقا لارقام العام 2009، اذ بلغ اجمالي هذه الايرادات في 18 دولة عربية 211 مليون دولار امريكي تتصدرها الامارات (75 مليون دولار( تليها مصر (55 مليون دولار) ثم الكويت (20 مليون دولار) والبحرين (17 مليون دولار) اما الملاحظة الاخرى فهي التواضع الشديد في عدد دور عرض السينما العربية التي لم يزد عددها عن 1200 دار عرض سينمائي في دول العالم البالغ عدد سكانها نحو 330 مليون نسمة. الكلمة في الأغنية العربية وعلى صعيد المشهد الغنائي فإن جملة من الملاحظات والتساؤلات ومازالت تفرض نفسها منذ سنين بل منذ عقود. ولعل معظم هذه الملاحظات والتساؤلات يتعلق بقضية الكلمة في الاغنية العربية. فقد غاب الشعر عن الاغنية! ولم تتوقف الشكوى من تراجع مستوى اللغة وجماليات التعبير في الاغنية العربية وبدت الركاكة وربما القبح احيانا سمة للعديد من كلمات الاغنيات التي شهدها العالم 2009 وذلك تحت ذرائع مسايرة العصر وتغير الاذواق وتجاوب الشباب. ودخلت شركات الانتاج الفني - بمعاييرها المثيرة للجدل وسعيها الدؤوب الى الربح طرفاً مؤثرا في المشهد الغنائي ومتهماً بالهبوط بالذائقة الغنائية للجمهور العربي وفي الاحوال كافة مازالت اسئلة شديدة تتكرر هل المطرب والشاعر والملحن هم الذين يفرضون ذائقة الجمهور او ان الجمهور هو الذي يفرض ذائقته عليهم؟ هل اطراف صناعة الاغنية العربية هم الذين تغيروا وتدنوا بمعاييرهم او ان الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي هو الذي تغير في بلاد العرب فقاموا هم فقط بالتعبير عنه؟! وماذا عن حقيقة ان الاغنية العربية مازالت تدور في كلماتها حول موضوع وحيد يحتكرها ويستأثر بها لا يخرج عن دائرة الحب والعاطفة والهجر والخصام بينما الحياة زاخرة بآلاف القضايا والموضوعات الإنسانية الأخرى الجديرة بالغناء لها؟ وفي النهاية لماذا نحن الأمة الوحدية التي لا تغني بلغتها المكتوبة فتتوحش العامية وتزحف على لغتها الفصحى؟ يقدّم ملف الإبداع الغنائي رصداً لهذه التساؤلات وسعيا للإجابة عليها، ولا سيما في ظل المقارنة التي تفرض نفسها بين ما يعتبره كثيرون العصر الذهبي للأغنية العربية وبين ما هو حاصل الآن، ويطرح الملف بعض تجليات أزمة الغناء العربي الراهن مثل توقف تدفق نهر الغناء الكلاسيكي، وانقطاع تواصل الأجيال بين المبدعين، وتسليع الثقافة الموسيقية والغنائية، وتراجع الغناء بالعربية الفصحى، وتضاؤل ما ينتج من أغنيات للطفل والأم والوطن والطبيعة وقضايا الأفق الإنساني الواسع. الحصار الثقافي والفكري يتضمن التقرير ملفا خامسا وأخيرا حول ما أسميناه الحصار الثقافي والفكري في العالم العربي خلال العام 2009، ويُعنى هذا الملف برصد التساؤلات والقضايا الثقافية والفكرية التي انشغل بها العرب في مؤتمراتهم وملتقياتهم ودورياتهم الثقافية في العام المنصرم، ولسوف نلاحظ ان التساؤلات ذاتها ما زالت تتكرر في العالم العربي حول قضايا الهوية والمواطنة والديمقراطية والعولمة والعلاقة مع العالم الغربي والتراث، وتجديد الفكر الإسلامي. ولربما اقتحم هذا السجال المتكرر بعض القضايا القليلة الجديدة التي بدأت تثير الانتباه مثل قضية اللغة العربية التي تشهد تراجعا منذرا بالأزمة، ولا سيما لدى النشء والشباب، وقضية الاعلام العربي في زمان تقنية المعلومات، ولا سيما مع انتشار الاعلام الالكتروني البديل سواء في صورة المدونات أم غيرها. ظاهرة الحال يوحي إذاً أننا ما زلنا ندور حول القضايا والاشكاليات ذاتها ولم نخترق بعد بما فيه الكفاية أسئلة المعرفة الحقة التي صنعت حركة التقدم الإنساني المعاصر. تساؤلان هامان لعل هذا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية يسهم بما يتضمنه من معطيات ومؤشرات حول الواقع الثقافي العربي في تقديم اجابة عن تساؤلين هامين: أولهما: كيف السبيل الى ادماج المكون المعرفي وتعظيم دوره في أي مشروع ثقافي عربي لكي يصبح التعليم والبحث العلمي وحركة التأليف والمعلوماتية بني تحتية وشروطا مفترضة للارتقاء بالابداع الذي هو الجوهر المخبوء لكل تنمية بشرية؟ ثانيهما: كيف يمكن توظيف ما تضمنه التقرير والبناء عليه لاستشراف المستقبل واقتراح مجموعة من البرامج وخطط العمل تنقلنا من فكر التنظير الى فكر التدبير؟ لربما كانت اجابة السؤال الأول تقع بالأساس على عاتق مفكري الأمة ومثقفيها وخبرائها بينما اجابة السؤال الثاني تكمن لدى صنّاع القرار. وفي الحالتين نرجو ان يكون هذا التقرير اضافة ولو متواضعة لكل الجهود المخلصة الأخرى التي يقوم بها غيرنا بهدف مراجعة الذات واستنهاض القدرات.. فربّ همة أحيت أمة. كلمة رئيس مؤسسة الفكر العربي صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل يسعد مؤسسة الفكر العربي ان تقدم تقريرها العربي (الثالث) الذي يغطي واقع التنمية الثقافية في اكثر من 18 دولة عربية، والذي حظي في نسختيه السابقتين باهتمام الأوساط الاعلامية والثقافية وتقدير نعتز به من كبار المسؤولين في الوطن العربي. ولعله من حسن الطالع ان يتواكب صدور هذا التقرير (الثالث) مع مبادرة مؤسسة ةالفكر العربي بالدعوة لعقد قمة ثقافية عربية. نأمل ان يسهم هذا التقرير بما يتمخض عنه من نتائج بالاضافة الى توصيات اللقاء التحضيري للقمة الثقافية الذي شرفت بتنظيمه مؤسسة الفكر العربي في تعميق النقاش وطرح الرؤى بشأن القضايا التي يمكن اقتراحها على جدول اعمال القمة المرتقبة. والمؤسسة إذ تحتفل هذا العام باكتمال عقدها الاول فإنها تسعى وتأمل في الوقت ذاته ان يصبح هذا التقرير السنوي ايذانا بمشروع نهضوي عربي طالما دعونا اليه يبدأ من التعرف على واقعنا ورصد سلبياته كما ايجابياته ليكون ذلك سبيلا الى تقديم رؤية للمستقبل تنطلق من معرفة واعية وأمنية بالحاضر. إن ما يحتويه تقرير هذا العام من مؤشرات ودلالات سلبية لا يمنع ان هناك مبادرات واعدة ومحاولات جادة في العديد من بلداننا للحاق بركب التقدم العالمي. لهذا نؤمن ان خطاب المراجعة لا يجب ان يسرف في جلد الذات، وان هذا الخطاب على اهميته يحتاج لخطاب آخر مواز هو ما نسميه خطاب الأمل. نأمل ان يسهم هذا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية ولو في بعض جوانبه في اشاعة خطاب الأمل على امتداد وطننا العربي الرحيب. وفق الله كل اصحاب الجهود المخلصة لرفعة أمتنا وتحقيق خير الإنسان في كل مكان.