طرحت مؤسسة الفكر العربي التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية في دورته الثالثة، وسعى التقرير من خلال ما تضمنه إلى رصد وتقصي واقع التنمية الثقافية في دول الوطن العربي، من خلال التركيز – بمنطق ترتيب الأولويات – على أهم مقوماتها المتمثلة في: التعليم، والبحث العلمي، والمعلوماتية، وحركة التأليف والنشر، والإبداع بمختلف تجلياته في مجالات الأدب (السردي والشعري)، والمسرح، والسينما، والموسيقى، بالإضافة إلى توثيق الحصاد الثقافي والفكري لما شغل العرب من قضايا وتساؤلات في مؤتمراتهم وملتقياتهم وإعلامهم. ويغطي التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافي واقع التنمية الثقافية في 18 دولة عربية. منهجية الرصد ويكتسب تقرير هذا العام خصوصيته من إتباع منهجية الرصد والتشخيص التي تعتمد على الرقم والمعلومة والإحصاء والتوثيق كضرورة تسبق المعالجات الأخرى التي تنطلق من التأصيل والتنظير والنقد والاستشراف، وهي مستويات معرفية نؤمن بأهميتها لكن نرى أنها تأتي – ويجب أن تأتي – لاحقة على المعرفة المجردة التي تسبق بدورها كل رأي. ويعد موضوع البحث العلمي من الملفات الجديدة التي احتواها التقرير لهذا العام، ولا يقتصر الملف على معالجة قضية البحوث العلمية والابتكار في العالم العربي، بل يعالج قضيتين أخرتين على درجة بالغة الأهمية وهما دور البحث العلمي في الإبداع والتنمية، ولا سيما على صعيد المردود الاجتماعي والاقتصادي للمعرفة العلمية ووضع الصناعات العربية ومدى استيعابها للإبداع. وتبدو الأرقام في هذا الخصوص لافتة وجديرة بالانتباه: فعلى صعيد براءات الاختراع يتضح أن عدد البراءات العربية المسجلة عالميًا بين 2005 و 2009 لم يتجاوز 475 براءة اختراع بينما بلغت في ماليزيا وحدها 566 براءة اختراع. وإذا اعتبرنا أن عدد سكان العالم العربي يبلغ نحو 330 مليون نسمة وعدد سكان ماليزيا حوالي 26 مليون نسمة، فإن معنى ذلك أن هناك براءة اختراع واحدة لكل 694 ألف عربي بينما تسجل براءة اختراع واحدة لكل 46 ألف ماليزي! أي أن معدل الإبداع في ماليزيا يزيد 15 مرة عن معدل الإبداع في الدول العربية مجتمعة! وعلى صعيد الباحثين فإن عدد الباحثين لكل مليون نسمة وفقًا للأعداد المتاحة الموثقة في بلد كمصر فإنه يتبين وجود 650 باحثًا مصريًا لكل مليون نسمة (وهو أعلى المعدلات العربية) بينما في كوريا الجنوبية يوجد حوالي 4600 باحث لكل مليون نسمة، أي أكثر من المعدل المصري بثمان مرات! وعلى صعيد الموارد المخصصة للبحث العلمي بالنسبة لإجمالي الدخل القومي فإن المتوسط العربي (باستثناء السعودية وقطر وهما من أعلى الدول العربية إنفاقًا على البحث العلمي) لا يتجاوز 0.2% بينما يبلغ في السويد واليابان وفنلندا حوالي 3.4%، أي أن دولة من هذه الدول تنفق على البحث العلمي 15 ضعفًا مما تنفقه الدول العربية. تطويع اللغة العربية علميًا ويقدم التقرير كذلك قراءة عن واقع تطويع اللغة العربية في مجال البحث العلمي وتعظيم استخدامها، فإن رصد واقع لغة الضاد على شبكة الإنترنت يقدم مجموعة دلالات هامة تستحق النقاش والتأمل، وتظهر الإحصائيات الحديثة تدني محتوى الإنترنت من الصفحات باللغة العربية التي لا يتجاوز نسبتها الواحد في الألف من تعداد الصفحات الإجمالي على الشبكة العنقودية. لكن ما يبعث على التفاؤل هو التزايد الملحوظ في عدد مستخدمي اللغة العربية على شبكة الإنترنت وهو الأعلى من مجموعة اللغات العشر الأولى على الشبكة، والذي بلغ 2300% خلال الفترة من 2000-2009. وبلغت نسبة مستخدمي الإنترنت من المتكلمين بالعربية 3.3% من إجمالي مستخدمي الإنترنت بكل اللغات، وهي نسبة تزيد على تلك الخاصة بمستخدمي الإنترنت من المتكلمين بالفرنسية والتي تبلغ 3.2% من إجمالي مستخدمي الإنترنت في العالم. ويطرح التقرير أيضًا القضية الأزلية في دول الوطن العربي وهي قضية هجرة الأدمغة العربية إلى الخارج التي تمثل نزيفًا حقيقيًا في العقل العربي. فالأرقام تظهر أن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم، وأن 34% من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون إلى الجاليات العربية وأن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة 60% من العلماء العرب والمهندسين في الولاياتالمتحدةالأمريكية. كما شهد العراق هجرة حوالي 7300 عالم تركوا بلدهم بسبب الأحوال السياسية والأمنية. وإجمالًا فغنه منذ العام 1977 وحتى الآن هاجر أكثر من 750.000 عالم عربي إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. طبخ وشعر وأغاني وتضمن ملف التواصل الثقافي العربي عبر شبكة الإنترنت أو (المعلوماتية) عددًا من الأرقام والمؤشرات التي تبدو مثيرة بكل معنى الكلمة وتكشف عن دلالات لا تخطئها العين: فبينما تحتل كتب الطبخ التي يتواصل معها العرب على شبكة الإنترنت مركز الصدارة بنسبة 23% من إجمالي كل أنواع الكتب الأخرى فإن المتنبي ما زال هو أحد أكثر الشعراء العرب المطلوبين على شبكة الإنترنت إذ يأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد نزار قباني! أما الكتب التي حققت أكثر معدل بحث على شبكة الإنترنت في العام 2009 فيتصدرها كتاب صحيح البخاري ثم لسان العرب فرياض الصالحين وصحيح مسلم ونهج البلاغة وفقه السنة! وبلغ معدل البحث على شبكة الإنترنت عن الثقافة الإسلامية (8270) عملية بحث شهريًا قبل البحث عن الثقافة العلمية (3620) والتعليم (2880) والطبيعة (2620) والتربية (1980) والسياسة (1900)!! ويكشف لنا التقرير في ملف التواصل الثقافي الرقمي أنه في مجال تحميل المحتويات الرقمية على شبكة الإنترنت قام العرب في العام 2009 بتحميل 43 مليون فيلم وأغنية بينما قاموا بتحميل ربع مليون كتاب فقط! كما بلغت عمليات البحث التي قام بها العرب في العام 2009 على شبكة الإنترنت عن المطرب تامر حسني ضعف عمليات البحث التي قاموا بها عن نزار قباني والمتنبي ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين!! ولم يمنع البحث عن الدين أو الاهتمام بالأغاني والأفلام على شبكة الإنترنت من الاهتمام بالقضايا العربية القومية الكبرى، فقد بلغ متوسط عمليات البحث الشهري التي قام بها العرب عن قضية فلسطين نحو 7 ملايين و 445 ألف عملية بحث لتستأثر القضية الفلسطينية وحدها بنسبة 46.6% من اهتمام العرب بمجموعة القضايا العربية العامة. أما قضية الوحدة العربية فكان نصيبها من عمليات البحث على شبكة الإنترنت 333 عملية بحث في المتوسط شهريًا أي ما يمثل واحدًا في الألف من إجمالي القضايا العربية التي يبحث عنها العرب! تجليات أدبية وفنية ويتعرض ملف الإبداع في هذا التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية رصدًا لأهم تجلياته الأدبية والمسرحية والسينمائية والغنائية خلال العام 2009. ففي المشهد الأدبي مازال فن الرواية العربية يواصل حقبة ازدهاره التي بدأت منذ نحو عقد من الزمان، حيث نشر ما يزيد عن الثلاثمائة رواية تقدم إلى خوض تجربتها المدهشة شعراء ومسرحيون، وفي المقابل بدأ الشعر العربي في العام 2009 مفتقرًا إلى المتابعة النقدية، فضلًا عن تراجع قرائه ومريديه، وبين الرواية المزدهرة والشعر الخافت بدأ فن القصة القصيرة مغتربًا لدرجة أن تحدّث البعض عن موت القصة القصيرة! وكان أكثر الأحداث الأدبية إثارة في عام 2009 فوز رواية “عزازيل” للكاتب المصري يوسف زيدان بجائزة “البوكر” العربية، وما زال الأدب النسوي يثير تساؤلاته ويبحث جاهدًا عما يسميه خصوصيته ويصدر توصياته في مؤتمر حول الحرية في الأدب النسائي ومن بينها الدعوة لتخصيص جائزة للإبداع والنقد النسويين. وفي المشهد السينمائي مازال ضعف الإنتاج السينمائي في الوطن العربي هو الملاحظة الأبرز؛ إذ تسيطر السينما الأجنبية عمومًا والسينما الأمريكية على وجه الخصوص على سوق الأفلام السينمائية العربية. فالسينما الأمريكية والهندية والأوروبية تستأثر بنسبة 87% من إجمالي الأفلام السينمائية المعروضة في العالم العربي بينما لا تمثل السينما العربية سوى 11% (منها 8% للسينما المصرية) و2% لسينما البلدان الأخرى. أما إيرادات دور العرض السينمائي في الدول العربية فما زالت متواضعة وفقًا لأرقام العام 2009، إذ بلغ إجمالي هذه الإيرادات في 18 دولة عربية 211 مليون دولار أمريكي تتصدرها الإمارات (75 مليون دولار) وتليها مصر (55 مليون دولار) ثم الكويت (20 مليون دولار) والبحرين (17 مليون دولار). أما الملاحظة الأخرى فهي التواضع الشديد في عدد دور العرض السينمائية العربية التي لم يزد عددها عن 1200 دار عرض سينمائي في دول العالم العربي البالغ عدد سكانها نحو 330 مليون نسمة. المشهد الغنائي وعلى صعيد المشهد الغنائي فإن جملة من الملاحظات والتساؤلات ما زالت تفرض نفسها منذ سنين بل منذ عقود. ولعل معظم هذه الملاحظات والتساؤلات يتعلق بقضية الكلمة في الأغنية العربية. فقد غاب الشعر عن الأغنية! ولم تتوقف الشكوى من تراجع مستوى اللغة وجماليات التعبير في الأغنية العربية وبدت الركاكة وربما القبح أحيانًا سمة للعديد من كلمات الأغنيات التي شهدها العام 2009 وذلك تحت ذرائع مسايرة العصر وتغير الأذواق وتجاوب الشباب. ويقدم ملف الإبداع الغنائي رصدًا لهذه الظاهرة ولا سيما في ظل المقارنة التي تفرض نفسها بين ما يعتبره كثيرون العصر الذهبي للأغنية العربية وبين ما هو حاصل الآن. ويطرح الملف بعض تجليات أزمة الغناء العربي الراهن مثل توقف تدفق نهر الغناء الكلاسيكي، وانقطاع تواصل الأجيال بين المبدعين، وتسليع الثقافة الموسيقية والغنائية، وتراجع الغناء بالعربية الفصحى، وتضاؤل ما ينتج من أغنيات للطفل والأم والوطن والطبيعة وقضايا الأفق الإنساني الواسع. الحصاد الفكري ويتضمن التقرير ملفًا خامسًا حول الحصاد الثقافي والفكري في العالم العربي خلال العام 2009. ويعني هذا الملف برصد التساؤلات والقضايا الثقافية والفكرية التي انشغل بها العرب في مؤتمراتهم وملتقياتهم ودورياتهم الثقافية في العام المنصرم. ولسوف نلاحظ أن التساؤلات ذاتها مازالت تتكرر في العالم العربي حول قضايا الهوية والمواطنة والديمقراطية والعولمة والعلاقة مع العالم الغربي، والتراث، وتجديد الفكر الإسلامي. ولربما اقتحم هذا السجال المتكرر بعض القضايا القليلة الجديدة التي بدأت تثير الانتباه مثل قضية اللغة العربية التي تشهد تراجعًا منذرًا بالأزمة، ولا سيما لدى النشئ والشباب، وقضية الإعلام العربي في زمان تقنية المعلومات، ولا سيما مع انتشار الإعلام الإلكتروني البديل سواء في صورة المدونات أم غيرها. ظاهر الحال يوحي إذًا أننا ما زلنا ندور حول القضايا والإشكاليات ذاتها ولم نخترق بعد بما فيه الكفاية أسئلة المعرفة الحقة التي صنعت حركة التقدم الإنساني المعاصر.