مع كل تشكيك محقّ في صحة الروايات الصهيونية ذات العلاقة بفلسطين، كالمقولة المشهورة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، يمكن أن نستشهد بمقولة أخرى، تزعم الروايات الصهيونية أنّ اليهود في أنحاء العالم كانوا يتوارثونها، ويردّدونها جيلا بعد جيل على امتداد ألفي سنة، وهي: "شلّت يميني إن نسيتك يا أورشليم"، وهم يستخدمون كلمة "أورشليم" رغم أن اسم بيت المقدس قد تبدّل عبر عصور التاريخ، منذ كان بناؤها الأول باسم "يبوس"، حتى أصبحت تُعرف باسمها العربي الأصيل: القدس، أو بيت المقدس، تأكيدا على قدسيتها وفق الإرادة الربانية. ومن المؤشرات إلى ضرورة الشك في هذه المقولات وأمثالها، أنّ الحركة الصهيونية طرحت قبل فلسطين أسماء بقاع أخرى للاستيلاء عليها، أشهرها أوغندا، ولكن التقت على فلسطين المطامع الاستعمارية أيام البريطانيين والفرنسيين الذين دعوا إلى توطين اليهود بفلسطين منذ عهد بونابرت، قبل أن تدعو الصهيونية لذلك، كما التقت هذه المطامع الاستعمارية الغربية والصهيونية مع أطروحات من طرح من الصهيونيين اسم فلسطين لاحقا؛ لأنها أقرب إلى تمكين الصهيونية من استغلال العنصر الديني في تعبئة اليهود من مختلف شعوب الأرض إلى دعم هدف الاستعمار الاستيطاني فيها.هل صحت الرواية أم كذبت؟: سيان، ففيها إشارة إلى أمر بالغ الأهمية، وهو أثر الكلمة في صناعة الوعي والإرادة والتعبئة "الجماهيرية"، وبالتالي صناعة الحدث اعتمادا على هذا وسواه. تضييع المصطلحات لم تشهد قضية قديما وحديثا مثل ما شهدته قضية فلسطين عبر العقود الماضية من تزييف وتزوير وتشويه للمصطلحات الأساسية ذات العلاقة بها، ليس من خلال العدو الصهيوني ومن يدعمه في الغرب فقط، بل من خلال قطاعات كبيرة ممّن تصدّوا للحديث عن القضية، وتبوّءوا مقاعد "الزعامة" باسمها، وكانت عملية التشويه هذه من الضخامة، وكانت الجهود المبذولة على صعيدها على قدر من الإصرار والتواصل، إلى درجة أدّت إلى انتشار المصطلحات المزيّفة- وإلى استخدام مصطلحات قويمة في الأصل ولكن بمضامين مزيفة متناقضة مع مفاهيمها الأصلية- انتشارا واسعا، غيّب الحقائق عن العيان، ووصل مفعول هذا الانتشار إلى كتابات ومواقف تصدر عمّن لا يُشكّ في إخلاصهم للقضية، ولا في سلامة أهدافهم المشروعة على صعيدها.من عايش النكبتين وما بينهما وما بعدهما واعيا لأبعاد القضية ومتابعا لأحداثها ومسيرتها، لا يجد مبالغة في القول إنّ في الإمكان تأليف مجلّد ضخم لتعداد هذه المفردات، وبيان أصلها وما تحوّلت إليه، وكيف تمت عملية التزييف خطوة بعد أخرى، ناهيك عن الحديث عن المفعول الواسع النطاق والعميق الأثر لذلك التزييف، ليس على مستوى "فكري" أو إبداع أدبي وفني، بل على مستوى صناعة القرار وتنفيذه أيضا. مفهوم الشرق الأوسط القليل فقط من هذه المفردات ما نعايش في الوقت الحاضر انكشاف أمره، وإن لم نشهد النأي عنه بعد اكتشاف أمره وظهور بطلانه.من ذلك –كمثال- مصطلح "الشرق الأوسط" الذي ابتكره الفكر السياسي التأريخي البريطاني قبل مائة عام أو أكثر قليلا، على أرضية تطبيق مقولة "فرّق تسد" في المنطقة الإسلامية، وإذا به يتحوّل مرحلة بعد أخرى إلى "مشاريع شرق أوسطية" لتصفية قضية فلسطين المحورية، وكشفت عن عمق الغايات العدوانية في نشره واستخدامه حقبة حروب عسكرة الهيمنة في عهد الرئيس الأمريكي بوش الابن، وهي تتنقل من شرق أوسط قديم إلى شرق أوسط كبير ومنه إلى شرق أوسط جديد، وتنتقل في الوقت نفسه من حرب إرهابية ضد الإرهاب إلى حرب وقائية مبتكرة ومنها إلى نشر الفوضى الهدامة. وليست المشكلة فيما يبتكر عدوّ معروف ويسعى لنشره، ولكن المشكلة في أنّ كلمة "الشرق الأوسط" تُستخدم في تسمية معاهد فكرية، ومراكز دراسات، ووسائل إعلام، وكتابات إسلامية، وأطروحات قومية داخل بلادنا، بأقلام المفكرين والإعلاميين في صفوفنا، ناهيك عن ألسنة السياسيين، فما أشد التناقض الخطير الكامن في حديث شبابنا بتأثير ذلك كله عن هدف الوحدة والشرق الأوسط جنبا إلى جنب؛ إذ يربط بذلك بين هدف حيوي مصيري جليل، ووسيلة التجزئة الهدامة الحائلة دونه. ومن ذلك -كمثال آخر- مصطلح "قرارات الشرعية الدولية" ولم يكن يخفى قديما ولم يعد يخفى حديثا أنّ الشرعية الدولية شيء لا تصدر عنه قرارات؛ فهو مجموعة مُثُل ومبادئ وقواعد عامة وصلت إلى صياغتها الأسرة البشرية في الأصل، وإن تمّ ذلك في حقبة انطلاقة جديدة للهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هذا الذي وُضعت صياغته في ميثاق الأممالمتحدة، ليحكم على "مشروعية" القرارات بما فيها ما يصدر عن مجلس الأمن الدولي وغيره من الأجهزة التنفيذية، أصبح نسيا منسيا، أو يراد أن يصبح نسيا منسيا، فهم ما تقول كما تقصده. المصطلحات تصنع الفكر والثقافة والمعرفة والوعي، والمفاهيم القويمة هي التي تحدد الطريق القويم لوضع المخططات وتنفيذها، وللتعاون على ذلك دون حدوث خلل بين ما يقوله طرف ويفهمه طرف آخر. في قضية فلسطين بلغ الخلل أقصى مداه، وآن الأوان بعد ستين سنة على النكبة الأولى أن تُبذل جهود كبرى وأن يتحقق التزام شامل للعودة بأرضية المصطلحات والمفاهيم ذات العلاقة بقضية فلسطين إلى جذورها القويمة وأصولها الصحيحة، فذاك من شروط التحرك العملي والتوجيه إليه، ومن شروط ظهور قيادات تلتحم مع الشعوب على أرضية مشتركة.لا يمكن إطلاق كلمة الأرض المحتلة ما دام فريق يقصد فلسطين بحدودها التاريخية، وآخر ما كان احتلاله قبل أربعين سنة، وثالث ما يمكن الحصول عليه من البقية الباقية من الأرض عن طريق مفاوضات ما!.لا يمكن إطلاق كلمة الحقوق المشروعة ما دام فريق يقصد بذلك حق تقرير المصير دون تشويه ولا تزييف لشعب فلسطين في الشتات وفي الأرض المغتصبة، وآخر يقصد مجرد قيام كيان هزيل مقيد السيادة والأجهزة والتسليح والقرار. لا يمكن إطلاق كلمة الثوابت الفلسطينية ما دام فريق يقصد بذلك ثوابت التحرير الكامل، والعودة الكاملة، والسيادة الكاملة، والوحدة الكاملة للأرض والشعب، والمقاومة المشروعة، وفريق آخر يعني ثوابته السياسية هو، وهو يتنازل عنها أيضا ويتراجع، فتتآكل وتهترئ، حتى لم يبق منها ما يمكن وصفه بشبح الثوابث، والثوابت لا تقبل أن تكون شبحا هيوليا لا يمكن الإمساك به. من يحرّر مفردات القضية القائمة طويلة، ولا يُنتظر من عدو صهيوأمريكي، ولا ممّن يضع زمام قضيته في أيدي العدو الصهيوأمريكي، أن يعمل على كشف الزيف عن التشويه، فمثل هذا الكشف يعني هدم الأسس المشوهة التي تقوم عليها مخططاته وأطروحاته وخطواته العملية.ولو قال قائلهم إن فلسطين كلها أرض محتلة، وإن ما جعلها على ما هي عليه اليوم يقوم كله على مسلسل باطل في جذوره وفيما انبثق عنه، بدءا بوعد بلفور وانتهاء بمؤتمر أنابوليس، ولكن القائل يقبل بالباطل عجزا عن تغييره؛ لكان في ذلك وصف للواقع كما هو، بدلا من إضافة موبقات أخرى للعجز عن تغيير الواقع، بأن يعمل على تنشئة الجيل الجديد على رؤية الباطل حقا، والعجز انتصارا، ويرى حتى حق العودة إلى فلسطين إجراء يوضع على مائدة التفاوض حول العودة إلى "إسرائيل".لابد من حملات لا حملة واحدة للتوعية بمفردات قضية فلسطين وفق ما هي على حقيقتها دون تزييف، وللأخذ بها في كل ميدان من الميادين دون إهمال لا تُقدّر عواقبه، ولرفض تداول ما يتناقض معها، ففي ذلك إسهام في تقويض أرضية القضية المصيرية وأرضية العمل لها حاضرا ومستقبلا.ولا ينتظر أن يهدم من أقاموا للباطل صرح التزييف للمصطلحات والمفاهيم؛ ذلك الصرح الذي يعللون به وجودهم وما يصنعون على طريق ترسيخ الباطل.ولكن نربأ بالأقلام الإسلامية، والعروبية، والوطنية، اتجاها وتصوّرا وسياسة، ونربأ بأقلام المتخصصين في العلوم السياسية والقانون الدولي، ونربأ بكافة المخلصين أن يساهموا بأنفسهم في نشر ما يتناقض مع اتجاهاتهم وتصوّراتهم وسياساتهم وأهدافهم، ويتناقض مع أمانة المنهج العلمي في البحث ورسالة العلم التي تقع على أعناقهم، ويتناقض مع حياة الوجدان تجاه القضية المحورية في حياة الأمة وواقع الأسرة البشرية.