قراءة ما حملته دفة غلاف مجموعة " رمان " بكر النتاج الشعري المنشور لسعاد جروس يكاد يوحي - بخبث مدروس - بأن باكورة كتب شاعر او اديب ما يجب ان تطل بصورة طفل يحبو . وفواز حداد كاتب الكلمة الظريفة هذه قصد بل قال في مكان منها نقيض ما يوهم القارىء بأنه قاله . والقارىء - سواء قرأ كلمة حداد ام لم يقرأها - لن يحتاج الى جهد او وقت ليكتشف ان مجموعة سعاد جروس تشبه مولودا اول لا يحبو ولا يتلكأ بل يصح ان يقال فيه انه ناضج ممتع وانه " منتصب القامة يمشي ..." المجموعة التي جاءت في 94 صفحة متوسطة القطع صدرت عن مؤسسة " الكوكب " وهي فرع من دار " رياض الريس للكتب والنشر " .الدخول الى عالم المجموعة الممتع قد يحمل متعة اضافية اذا جرى عبر الباب الذي شكلته كلمة حداد . قال الكاتب مخاطبا رياض نجيب الريس الكاتب والصحافي الذي كتب الشعر في مرحلة من شبابه وصاحب دار الريس للكتب والنشر " ارسل اليك مجموعة شعرية لكاتبة شابة مبتدئة ذات موهبة جيدة .في الواقع لم يشهد بها احد برأي وربما من فرط حساسيتها رفضت ...التعامل معك لمعرفتها الاكيدة عن عداوتك للشعر والشاعرات ..." اضاف يقول بروح فيها ما يشبه " السعتقة " نسبة الى الاديب الظريف الراحل " سعيد تقي الدين " قد ننجح معا في ان تتراجع هذه الشاعرة الناشئة عن كبريائها السقيمة رغم ما لديها ضدك من انتقادات فظة لا اظن الا انك ستتجاوزها ...في سبيل الادب تهون امور كثيرة احدها مراعاة شاعرة مغمورة ومغرورة ..." وختم بالقول " وبالنسبة الى المستقبل ..يوما ما سوف يحاسبك التاريخ حسابا عسيرا او يذكر اسمك بحروف من نور ونار على هذه الهدية التي قدمتها لشعب لا يقرأ ." اما القصائد فهي قصيرة ومكثفة .واسلوب الشاعرة سعاد جروس لا " يسيل " عاطفة بمعنى ان يقوم على ذلك التدفق الحار سواء في المحزن او غيره .لا يعني هذا القول انه بعيد عن العاطفة فهذا ليس صحيحا اطلاقا .المقصود هنا ان سعاد جروس تكتب باسلوب فيه قدر كبير من الخصوصية اذ يقوم في مجالات عديدة على تصويرية تلفت النظر وتغذي التصور .انها تصويرية تتغذى بكثير من المشاعر اي العواطف حينا كما تبنى او تأتي نتيجة عمل فكري استطاع ان يدخل العواطف في صلبه . فأنت حين تقرأ تصلك نتائج التجربة الشعورية في صور اقرب الى الفكري لكنها قادرة على اثارة المشاعر بحرارة .انها فكرية حية تجري فيها دماء الحياة وليست حالات ميكانيكية باردة .ولعل هذا من أبرز ما يميزها . وشعرها نسيج من هذا ومن خيوط وألوان مختارة من الحياة اليومية المعاصرة .لكن هذه الخيوط لا تجر القارىء الى اليومي وترميه فيه بل تحمله من خلال اليومي الى عالم النفس وحالاتها المختلفة . بعض هذه اليوميات " العابرة " لليومي يطل علينا من قصائد قصيرة منها " تشكيل " حيث تقول باختصار ما يحملنا الى حالات بعيدة من النشوة الانسانية التي قد تشكل تعويضا عن كثير من الجارح في الحياة .ولربما كانت الصحوة نكسة للانسان على حد تعبير النؤاسي ." يا فنجان القهوة / لا تسحبها من عالم الجن والتونيك / ذلك المشهد مدهش حقا ." في " حصار " تصوير مجازي لشأن فكري الى حد بعيد ..لكنه ليس جافا .تقول " الفارون من ازمانهم / محاصرون بعقارب الساعة / كوابيس تعقلن جنونهم ." في " حالة عامة " تصوير للعاطفي بجمال لكنه لا يسيل عاطفة بل يختصرها في الصور .تقول " حين احبته / اشجار كثيرة حنت اغصانها / حتى طلوع الشمس / وحين كرهته / اشجار كثيرة / اشاحت عنها / حتى غياب الشمس ." في " لقاء " نموذج عن " هندسة " المشاعر بطريقة واعية وجعلها مع ذلك تحافظ على حمولتها العاطفية .تقول " بفرح غامر يأتي مساء / ومعه الفجر ." قصيدة " في التاكسي " تنسج من اليومي حالة انسانية بعيدة الاغوار العاطفية والفكرية تنقلنا من اللحظة الى المصير الانساني كله .تقول " يحدث في التاكسي / تدهمك العيون في المرايا / تلاعب شغاف القلب / تعبث بالماضي / تنكل بالذكريات / ثم ..تشيح عنك / تقرأ العداد / ازف الرحيل / لا غالب ولا مغلوب / راكب اخر ينتظر سيأخذ مكانك / لا تنس ما فضحته المرايا في التاكسي ." سعاد جروس تقول الكثير الان وبجمال ويبدو ان لديها الكثير لتقوله بعد الان .