انتهيت هذا الأسبوع من قراءة قصة طويلة للكاتبة معصومة العبد رب الرضا بعنوان (سمك بأحشائه). والحقيقة إن القصة كانت على طاولة مكتبتي منذ شهور عدة، كلما حاولت البدء في تصفحها، كان عنوان القصة يأخذني بعيدا عنها إلى كتاب آخر. ولا شك أن اختيار عنوان الكتاب مهمة حيوية، فالعنوان في كثير من الأحيان، يجعل الكتاب في قوائم الكتب الأكثر قراءة. وأحيانا أخرى ينحي (العنوان) الكتاب عن مكانه الحقيقي بين صفوف الكتب المنشورة إلى مراكز أدنى. كان لدي إحساس أن العنوان له ارتباط مباشر(بالطبخ والنفخ) بل وتفوح منه رائحة (الزفر) وخاصة أن الكاتبة امرأة وليست رجلا. وصدقت توقعاتي. فالعنوان يشير إلى وجبة رديئة قامت بطلة القصة بطبخها. أثارت السخرية منها. فليست معدّة الوجبة تلك إلا بطلة القصة الصغيرة فاطمة. التي تزوجت وهي طفلة في الثالثة عشر من عمرها. وقصة (سمك بأحشائه) ليست قصة قصيرة. بل هي قصة طويلة في حجم الرواية من حيث عدد صفحاتها، إلا إنها لا تحمل سمات الرواية قطعا. لذلك فقد اكتفت المؤلفة بكتابة كلمة (قصة) على صفحة الغلاف، حتى لا تثير أقلام النقاد عليها. وبالطبع فإن هذا الأمر متروك للنقد الفني. وأنا هنا أقدم قراءة انطباعية، وذوقية لهذه القصة الإنسانية. تدور قصة (سمك بأحشائه) عن حياة بطلتها الوحيدة (فاطمة) ذات الثلاثة عشر ربيعا، التي زوجت وهي في هذا السن الصغير من زوج يكبرها كثيرا في العمر والتجربة. وحاولت القاصة أن تجعل من محور الزواج للفتاة الطفلة (فاطمة) من زوجها الأكبر سنا، المحور الوحيد لقسوة المجتمع، وعاداته البالية. إلا أنها لم توفق كثيرا. فالطفلة الصغيرة (فاطمة) التي زوجت، ورغم صغر سنها، كانت اسعد الزوجات، وأفضل الأمهات، زوجها أحسن الأزواج. فزوج فاطمة كان الأب والأخ والصديق لهذه الزوجة الصغيرة، حتى أصبحت أما ناضجة، ومعلمة محترمة. في مقدمة الصفحات نجد (إهداء) و(رؤية) و(تقديم) نقدي للقصة، وكل هذه الأشياء لا داعي لها. فيكفي أن تبتدئ القاصة معصومة قصتها بشكل مباشر وتلقائي من دون كل تلك المقدمات الاحتفالية. ويمكن ملاحظة استخدام القاصة لضمير الغائب في السرد القصصي. ولو إنها استخدمت ضمير الأنا (المتكلم) لجاءت قصتها أكثر دفقا من الناحية الوجدانية. لأن ضمير الأنا هو الأكثر تداعيا للذكريات والأقرب للنفس وللقارئ. وخاصة أن القصة سمك بأحشائه لها شخصية وحيدة محورية. وربما رغبت القاصة معصومة في استخدام هذا الضمير، حتى لا يظن القارئ أنها تحكي تجربتها الشخصية. أو أنها تكتب قصتها هي، وليس قصة فاطمة. بل أن ضمير الغائب - وفي كثير من الأحيان – لم يكن سوى القاص الحكيم، الذي يعظ القارئ بشكل مباشر، ويوجه القارئ لأمور الخير والصلاح. وينتقد العادات والتقاليد، وينتقد الشعوب الأخرى. ويأمل هذا الضمير الحكيم من أخذ العبرة من كل ذلك. فهناك مثلا نقد مباشر وصريح للتدخل الأمريكي في العراق وفلسطين ولبنان. ونقد مباشر للسياسيين الغربيين، ودفاع عن المقاومة العربية مقابل الإرهاب الغربي. وللكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية البالية، وخاصة في إطار علاقات الرجل بالمرأة. وهناك نقد مباشر للجهل، متمثلا في رفض تعليم الفتاة، والتحاقها بالمدارس. وإذا كان هذا الأمر موجودا في زمن القصة. فإنه موجود على شكل ضيق. لأن زمن القصة هو زمن تسابق العائلات على تدريس بناتهن في المدارس الحكومية، والالتحاق بالجامعات، وفي مختلف التخصصات العلمية. أما الإيقاع الزماني للقصة الطويلة. فهو زمن ارتدادي من الطفولة إلى النضج ومن النضج إلى الطفولة. لقد جاء ها الإيقاع موفقا إلى حد كبير. ويستطيع القارئ أن يتلمس زمن القصة. ويدرك أن نهاياتها حدثت في العقد المنصرم من هذا القرن، من خلال الأحداث التي أشارت إليها القاصة في قصتها. وإذ لم تشر القصة إلى زمان القصة، فإنها لم تشر أيضا إلى مكانها. إلا أن القارئ يستطيع إدراك المكان وتخيله. كل ذلك رغم أن الإيقاع المكاني للقصة كان فضفاضا. فكان هناك القرية للمكان الصغير الداخلي، وكان هناك العالم الغربي بكل مساحاته الشاسعة. ولكن دون تحديد دقيق لا للقرية المحلية وللمدينة الغربية. بالإضافة إلى كل ذلك، فقد غاب الحوار تقريبا عن القصة. واتكأت على سرد القاص الحكيم الغائب. وغياب الحوار نتيجة طبيعية لغياب الشخوص في القصة. فالشخوص القليلة الواردة في القصة من زوج وأولاد وأقارب، هم شخصيات ثانوية. شخصيات غير مستقلة، لا نعرف عنها الشيء الكثير. ولكن ظهرت لنا في سياق السرد مصادفة فقط. بل حتى الشخصية الوحيدة (فاطمة) والمحورية في القصة، لا نعرف ملامحها بدقة. يمكنني القول أن قصة (سمك بأحشائه) قصة إنسانية بالدرجة الأولى، فيها الكثير من الصراع الداخلي، والنقد، والعبرة. قصة رائعة لصلابة المرأة وطموحها وتفوقها. لقد أعجبتني كثيرا، واستمتعت بقراءتها. لأن فيها الكثير من القيم الأخلاقية والإنسانية التي تحتاج فتياتنا إليها في مشوار حياتهن. كاتب وقاص سعودي [email protected]