نشأت قبل 3500عام تقريبا..قرية على شاطئ البحر الأحمر..قريبا من مكةالمكرمة..حيث البيت العتيق..أنشأتها قبيلة قضاعة العربية..قرية للصيادين والمراكب الصغيرة..نشأت خالية من العيون المتدفقة..محرومة من الأنهار.. فأرضها مشبعة بالأملاح..حرارتها مرتفعة.. أمطارها قليلة..وغير منتظمة..فبالكاد يجد ساكنها ماءً ليروي ظمأه..ناهيك عن الاحتياجات الأخرى..مما حد من عدد سكانها على مر العصور..الكنداسة أول تقنية لتحلية المياه عرفتها البشرية..انها جدة وقصة الماء..استخدمت الكنداسة بجدة قبل قرن تقريبا..براميل المياه العذبة التي تجرها الحمير..كانت أحد الحلول لتأمين المياه لسكان جدة..كان السقاة يحملون المياه في صفيحتين.. وينقلونها إلى المنازل.. عرفت جدة تحلية المياه المالحة قبل أكثر من قرن.. كانت أول وحدة تحلية تنشأ على اليابسة.. من خلال وحدة تكثيف لتقطير مياه البحرانتزعت من إحدى البوارج الغارقة قبالة سواحلها..ونصبت بمينائها عام 1905م..عرفت باسم «الكنداسة».. كانت تستخدم فقط بالسفن التجارية والعسكرية..ولم تحقق النجاح المتوقع..نظرا لاعتمادها على الفحم الحجري لتشغيلها.. وهو وقود غير متوفر محليا.. أعاد "الملك عبد العزيز" بحصافته وقيادته التجربة قبل 84 عاما ..وإنشاء وحدتي تكثيف لتقطير مياه البحر .. لتوفير مياه الشرب لجدة.. فبالكاد يجد ساكن جدة ماء ليروي ظمأه،ناهيك عن الاحتياجات الأخرى كالوضوء أو الاغتسال ..مما دفع أهلها دوما للبحث عن أي مصدر للمياه..لسد احتياجاتهم الضرورية.. كانوا يلجأون إلى حفظ مياه الأمطار بطريقة تجميعها من أسطح المنازل..وعبر مخارج أنبوبية تتدفق إلى خزانات أرضية..وهذه الطريقة كانت معروفة قبل مئات السنين بالشام..وسيلة كانت قاصرة عن حد الاكتفاء الأدنى..لمدينتنا العطشى.. فيقوم الناس بجلب المياه من الآبار البعيدة .. جنوبجدة ..ويتم تخزينها في صهاريج داخل المنازل. اعتاد الحجاج أن يطلبوا الماء من أصحاب البيوت في جدة.. وهؤلاء يرون أنه حق «للسائل والمحروم» فيؤثرونهم به على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..الصهاريج استخدمت فيها قبل ظهور الإسلام وبعده.. كانت جدة محاطة بأعداد كثيرة من الصهاريج بمقاسات مختلفة.. خوفا من ضياع الماء القليل الذي تجود به الامطار والسيول المتنقلة.. وظل استعمال الصهاريج أهم مصادر مياه الشرب في جدة.. كانت الصهاريج خارج أحيائها لحفظ المياه..كانت بركا كبيرة وعميقة..تمتلئ بالمياه عند هطول أمطار غزيرة.. أما الصهاريج داخلها فكانت لغرض الاستعمال المباشر.. بداية القرن ال 10 الهجري اهتم السلطان الغوري بمعالجة أزمة جدة المائية.. تمكن من جلب مياه عين وادي قوص شرق جدة.. وبذلك عرفت جدة مياه العيون.. استمر جريان العين الغورية حتى القرن 11 الهجري..وبشكل متقطع،.. عام 1270 نهض التاجر الجداوي «فرج يسر»وأخذ يجمع التبرعات..لإصلاح العين «الغورية»..وتم له ذلك، وجرت العين من جديد.. واستقت جدة بمياهها العذبة.. واستمر جريانها حتى اصابها الضعف.. وانقضى عمرها مع عمر من نهض بها – فرج يسر – عام1302.بنفس العام اهتمت حكومة عبد الحميد الثاني العثماني بمعالجة ندرة المياه في مدينة جدة.. فقام الوالي التركي بجدة بجلب المياه من عين تبعد 10 كم عن المدينة سميت بالعين الحميدية.. وأهالي جدة تغمرهم الفرحة.. بوصول مياه هذه العين .. وتشتد بهم الأزمة معاناة من ملوحة العين الوزيرية..ومع مطلع القرن 19 الميلادي..عصر الآلة البخارية..كانت السفن تزود بآلة لتقطير مياه البحر لاستخداماتها..ولا تضطر للتوقف للتزود بالمياه العذبة.. بتلك الحقبة تحطمت سفينة عثمانية أمام جدة ..فقررت الدولة العثمانية انتشال آلة التقطير بالسفينة..ونصبها على شاطئ جدة دعما للعين الوزيرية أو الحميدية..خاصة أن جدة أهم محطات الحجاج..وبها مقار السفراء وقناصل الدول الأجنبية..وحركة الاتصال عامرة منها وإليها..كان ذلك عام 1325.استبشر أهل جدة خيرا بعد أن عملت الكنداسة..وتدفق ماؤها عذبا نقيا فتركت شئيا من الاطمئنان.. كانت «الكنداسة» تنتج 300طن يوميا.. وكان على كل شخص أن ينتظر طويلا ليأخذ حصته..الكثير من الجهد والمشقة للحصول على تنكة..أو تنكتين (زفة) حسب حجم العائلة ..تكفي فقط للشرب والطعام وإعداد الشاي.. كان للسقاة رئيس «شيخ السقاية»..وكان لهم نظام دقيق في ممارسة المهنة.. خاصة من يعملون في حمل القربة.. ومن يعملون في حمل التنكة (الصفيحة).. والظريف أن لهؤلاء السقاة رتبا..فالسقاة الملتحقون حديثا بالمهنة..يحملون الماء في صفيحة واحدة (تنكة) على رؤوسهم.. ثم يرتقي ليصبح ساقي زفة على كتفيه.. والمرتبة الثالثة هم قدماء السقاة، وهم حاملو القرب.. وهؤلاء السقاة ذوي البنية القوية.. فوزن القربة بعد ملئها بالماء يتجاوز المائة كيلو.. تطورت وسيلة السقاة..إلى نقل الماء بواسطة البراميل التي تجرها الحمير..وتنوعت استخدامات المياه أيضا..فماء الكنداسة للشرب والطعام وإعداد الشاي.. بينما ظلت مياه الصهاريج بعد أن دخلت الكنداسة الخدمة.. مياه «الرديخ» تستخدم للاستخدام والتنظيف..ومياه الرديخ أي غير النقية..وهي مياه الصهاريج التي تجمع من الأمطار..أو تستخرج من آبار محفورة داخل مدينة جدة..آبارها: المعمر والمعمار..وأبو عنبة والزاوية.. ولؤلؤة وأبو سيفين. الذين لا يستطيعون شراء ماء الكنداسة..كان يستعملون مياه الصهاريج للشرب والغسيل.. ومع قلة مياه «الكنداسة»..فقد كانت المصدر الرئيسي لمياه الشرب ..سعر ماء الكنداسة كان مرتفعا..ولم يكن في متناول الفقير والعاجز والضعيف.. فماؤها لميسوري الحال والأقوياء..وكانت قريحة الشاعر الجداوي محمد سعيد العتيبي .. تعبيرا صادقا لواقع مؤلم مع الكنداسة فقال:يا ذوي الرأي والحجى والكياسة..خلصونا من دوشة الكنداسة..كلكم تأخذون بالدس ماء ويجينا البلاء من أجل كاسه..لو عطشتم كما عطشنا زعقتم وهجرتم بشدة وحماسة..رحمة بالفقير فهو ضعيف بهدل الفقر عقله وحواسه..يشتري شربة بريال بعد أن باع قشه ونحاسه انعكاس واضح لمشاعر الغلابة والفقراء من الأهالي والمقيمين.. اشتدت آثار الحرب الإقليمية دوليا ومحليا..كانت أهمية الكنداسة قصوى..تعطلت وتم إصلاحها.. وعادت للإنتاج.. ثم استمرت تعمل بتقطع..وفجأة توقف إمداد الطاقة لتشغيل الكنداسة.. ولم يعد ما يكفي من وقود الفحم الحجري لتحريك الآلة.. وفشلت كل محاولات الإصلاح،استخدم الحطب وقودا وهو الذي عجل بخرابها النهائي عام 1344. زاد نمو جدة السكاني والعمراني.. وزادت حركة التجارة ..وتوسعت علاقة مدينة جدةبالخارج.. بدأت أزمة مائية جديدة..واستعجلت السلطات أمرها باستيراد آلتين كبيرتين عام 1346، قامتا بمهمة تقطير الماء من البحر.. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى..وبداية حركة الانتعاش.. والتوسع في العمران بشكل خاص..أدى شح المياه النقية بشيء من العناية والاهتمام..وكان الماء الصالح للشرب مثل الذهب أو أكثر قيمة..أصبح الذين يستطيعون شراء ماء الكنداسة يستعملونه للشرب والشاي والطعام..تعود السكان على استعمال مياه الصهاريج..ومياه «الرديخ»للاستحمام والتنظيف..وسارت بين خوف ورجاء..لاح شبح الحرب العالمية الثانية وكانت شرسة..فكانت السماء دخانا والأرض دماءاً..وحالة مدينة جدة ثغر البحر الأحمر..تستغيث من شح المياه النقية وندرتها.حدث فزع كبير بين الناس من الموت عطشا..مما جعل مهندسي الكنداسة يواصلون الليل بالنهار لإصلاحها..لدرجة أنهم صنعوا قطع غيار محلية بواسطة المخرطة.. حيث كانت الاستحالة باستيراد قطع الغيار بسبب تأثير الحرب الدائرة رحاها على أوجه الحياة في العالم..عادت المياه النقية تتدفق من الكنداسة من جديد، لكن الخوف ظل سائدا بين الناس .. اقترح بعض أهالي جدة التبرع لجلب الماء من عيون وادي فاطمة.. وحاول رئيس الكنداسة – إقناع الأهالي بالتعامل مع الكنداسة لتكون رافدا مائيا جدة.. ولشدة معاناتهم الطويلة مع الكنداسة رفضوها..أمر الملك عبد العزيز بالنظر في حقيقة وضع الكنداسة..ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى خرابها..وجاء التقرير من كلمتين:عمرها «غلق»، أي أنتهت صلاحيتها..قرر وجهاء التبرع لجلب الماء من وادي فاطمة بالأنابيب..علم الملك عبد العزيز برأي الوجهاء فقاد الفكرة بنفسه عام 1364. تم القيام بالكشف على مجاري العيون وترميمها وإصلاح قنواتها ومد أنابيب..كما تم إنشاء خزان كبير لتجميع المياه بطريق مكة الكيلو 14..استمر العمل في الحفريات وعمليات نقل المواسير مع عدم توفر معدات وآليات للحفر..كانت الخبرة بسيطة..وتم جلب خبراء للمشروع من مصر وبريطانيا..كان غرة محرم 1367، يوم تاريخي في حياة مدينة جدة..استبشر الناس خيرا..واطمأنت نفوسهم..تدفقت المياه عذبة غزيرة من وادي فاطمة إلى مدينتهم..أمّن الناس مصدر حياتهم من المياه عذبا واطمأنوا باستمراره..حتى تمادوا بالاستهلاك دون وعي بالعاقبة..وتطاولوا الى ما وراء سور مدينة جدة..تم هدم السور.. وتكونت أحياء سكنية جديدة تحتاج الماء..وكان لا بد من إنشاء شبكة مياه لأول مرة بجدة.. وبدأت العين العزيزية بتوصيل مواسير المياه مباشرة إلى المنازل..مما أدى إلى جعل المياه متاحة مقابل 15 هللة للمتر المكعب..مقابل صيانة شبكة وتوزيع المياه..فزاد استهلاك المدينة أضعاف ما قد تم تقديره..ثم بعد حين جاء عصر تحلية المياه..وارتوت عروس البحر.. التي اصبح سكانها 5 مليون نسمة.. ومساحتها 1200 كم مربع.. وزمان الماء يا جدة .. زمان يا ام الرخا والشدة..