كانت الأمثال نتاج خبرة واسعة وتجربة، لذا كان الناس يأخذون بها لتنير طريق حياتهم، إلاّ أنه مع مرور الزمن وتقدم العلم ظهرت أمور قلبت مفاهيم بعض الأمثال رأساً على عقب، ومن تلك الأمثال: "اللي ما يعجبه يشرب من البحر"، فالآن يكاد يكون الكل منّا يشرب من البحر فكيف حدث ذلك؟ وكيف استساغ الناس شرب هذا الماء الذي هو ملح أجاج؟ استطاع الإنسان المتسلح بالعلم أن يُفيد من ماء البحر بطريقة التحلية، وهذه الفكرة الأساسية لعمليات التقطير، والتي تكمن في رفع درجة حرارة المياه المالحة إلى درجة الغليان وتكوين بخار الماء الذي يتم تكثيفه بعد ذلك إلى ماء ثم معالجته، ليكون ماءاً صالحاً للشرب أو الري. وفي مدينة كبيرة كالرياض فقد كان الطلب يتنامى على المياه العذبة الصالحة للشرب ويزداد، فبعد أن توحدت البلاد على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- بدأ التوسع في البناء، وتقاطرت الأسر من شتى بقاع المملكة إلى الرياض من أجل العمل وطلب العلم، فتضاعف سكانها في سنوات قليلة، مما جعل الحاجة إلى المياه تزداد يوماً بعد آخر. معمل تحلية المياه في الخبر عام 1394ه كان الناس يستمدون مياه الشرب من الآبار التي كانوا يحفرونها في مزارعهم فيستفيدون أيضاً منها في سقيا مواشيهم وأراضيهم الزراعية الصغيرة، التي بالكاد تكفيهم محاصيلها وكان جلها من النخيل، حيث يستعينون بالحيوانات في استخراج الماء من تلك الآبار ب"السواني"، التي تعزف نغمات جميلة تصدح في آذان من كان يسقي الزروع أو يسكن قريباً من تلك المزارع، شأنها كشأن جميع قرى وبلدات نجد في ذلك الوقت، بينما عمد الموسرين إلى حفر الآبار في قصورهم وبيوتهم الكبيرة فصارت تمدهم بحاجتهم من المياه العذبة طوال العام، واستمر الحال على ذلك ردحاً من الزمن حتى توسعت الأحياء وظهرت أخرى جديدة شُقت فيها الطرق وظهرت الحاجة الفعلية إلى مد شبكات المياه إلى المنازل تسهيلاً على المواطنين في توفير مياه الشرب بدلاً من جلبها من الآبار، وشيئاً فشيئاً توسع مد شبكات المياه إلى المنازل وأُنشئت خزانات المياه العملاقة كخزان مياه الرياض الذي بني عام 1391ه، والذي يعد في وقته إنجازاً كبيراً، لكن مع تقدم الزمن وازدياد الهجرة إلى الرياض باتت تلوح في الأفق مسألة توفير المياه التي أشغلت المسؤولين حتى جاء الحل الجذري لتلك المشكلة وذلك عن طريق جلب مياه الشرب المحلاة من البحر، عن طريق مد خط من المنطقة الشرقية إلى العاصمة الرياض. سيدات يضعن «الوقاة» لحماية الرأس من ضغط القدر والتوازن عند المشي أثناء رحلة جلب المياه ماء القدور كانت مهمة جلب الماء إلى البيوت من الآبار أو العيون أو غدران السيول مهمة يومية مرهقة، وكانت المرأة هي من تُؤدي هذا العمل اليومي الشاق، فالرجل يخرج من بيته صباحاً من أجل العمل بكد لتوفير لقمة العيش، بينما تقاسمه الزوجة والبنات هم البيت، فتؤدي بمهامها المتعددة والتي على رأسها جلب الماء عن طريق ملأ القدور وحملها على الرأس، حيث كانت المرأة تستخدم قطعة من القماش دائرية الشكل ومفتولة كالحبل الغليظ أشبه ما تكون ب"العقال"، وتسمى "الوقاة"، وهي تقي الرأس من ضغط القدر على الرأس مباشرة، ويستفاد منها أيضاً في حفظ التوازن عند المشي، فلا يميل القدر فينسكب منه الماء خلال المشي، وقد صور الشاعر "سليمان بن موسى الموسى" -من مرات- تلك المعاناة ضمن قصيدة تراثية قال في مطلعها: وين القدور وين هاك الوقايا يومٍ كل قدر يبرا له وقات وين المعصّم فيه زري وزوايا وين العبي اللّي عراض وطويلات وكان هواة الغزل العذري من الشباب في ذلك الحين يحظون بالنظر إلى النساء، خاصةً صغيرات السن وهن مقبلات إلى الغدير أو البئر، فيتحينون الفرصة عند تزود هؤلاء النسوة بمياه الشرب من الآبار فيتبادلون معهن أعذب الحديث، وبعد فترة من الزمن مدت شبكات المياه من الخزانات التي بنيت بجانب الآبار التي حفرت من أجل توفير مياه الشرب، الأمر الذي فوت على أصحاب الغزل هؤلاء فرصة النظر إلى المحبوبة في ذهابها وإيابها عند جلب الماء!. جيل يتذكر معاناة أجداده في استخراج الماء من البئر حفر الآبار كان توفير مياه الشرب بالذات هاجساً يقلق جميع الناس منذ القدم، خاصةً المناطق الصحراوية التي تقل فيها نسبة هطول الأمطار، لذا لجأ الناس في القرى إلى حفر الآبار واستخراج الماء منها بالطرق البدائية عن طريق الاستعانة بالحيوانات كالجمال والثيران، بينما استعان من لم يسعفه الحظ باستخراج المياه الجوفية لندرتها في بعض الأماكن بحفظ مياه السيول والأمطار في برك وخزانات بدائية تكاد تكون طبيعية من أجل توفير ماء الشرب، أما البادية فإنهم كانوا في شقاء من أجل توفير مياه الشرب لهم ولمواشيهم فكانوا في الشتاء يتتبعون مواقع هطول الأمطار ويستقرون بجانب الغدران التي تخلفها، وعند جفافها مع بداية حلول الصيف وانقطاع المطر فإنهم يرحلون إلى الواحات والقرى فيستقرون قريباً منها ويتجهون إلى عدد من موارد المياه المشهورة ليستقون من آبارها. استمر الحال على ما هو عليه ردحاً من الزمن حتى عمّ التطور البلاد كلها فتولت وزارة الزراعة والمياه مهمة توفير مياه الشرب للمواطنين وذلك بالاستعانة بعدد من المهندسين المتخصصين في مجال استخراج المياه، من أجل حفر آبار "ارتوازية" عميقة أعمق من الآبار اليدوية التي كانت تسمى "قلبان"، وبعد خروج المياه بكثافة تم تركيب عدد من "مكائن" إخراج المياه وتم مد شبكات بدائية لمد الناس في القرى والبلدات بالمياه الصالحة للشرب، فعمّت الفرحة الجميع بهذا الإنجاز في ذلك الوقت وغمرتهم السعادة بعد توديع عصر المعاناة في توفير مياه الشرب بالطرق اليدوية والبدائية. البدو كانوا في ترحال دائم بحثاً عن المياه محطات التحلية كان يُخصص في كل بيت قديماً أوعية لحفظ الماء، وهي قدور كبيرة يوضع فيها الماء وتغطى وتسمى قديماً "حدادية" و"جابية"، إضافة إلى "قرب" الماء و"الزير"، الذي يوضع فيه الماء صيفاً طلباً لتبريده ليطفئ لهيب الظمأ في أيام الصيف اللاهبة. وبعد تزايد الطلب على الماء الذي هو عصب الحياة، خاصةً في المدن الكبرى التي باتت تغص بالسكان الذين يتزايدون في كل عام جاءت فكرة التوسع في مشروعات المياه والتي توجت بالاستعانة بمياه البحر، وذلك بإنشاء محطات التحلية العملاقة على امتداد سواحل البحر الأحمر والخليج العربي، والتي أمّنت الحاجة إلى المياه لجميع أرجاء البلاد، وقد كانت البداية في عام 1385ه حينما تم إحداث مكتب بوزارة الزراعة والمياه لدراسة الجدوى الاقتصادية والخطوات التمهيدية للإنشاء محطات التحلية، ففي عام 1389ه تم تشغيل "المرحلة الأولى" لمحطتي الوجه وضباء، وفي عام 1390ه تم تشغيل محطة جدة "المرحلة الأولى" وهكذا توالت مشروعات الخير في توفير مياه الشرب إلى يومنا هذا. بداية إنشاء برج مياه الرياض عام 1391ه قال: «وينا ووين الشرقية؟ بينشف الماء ويخلص ما وصل»، وآخر مستغرباً: «وشلون بيكفينا الماء من ماصورة تجي من ذيك المسافات» تكثيف التقطير وعرفت المملكة تحلية المياه منذ أكثر من (87) عاماً من خلال عملية التكثيف لتقطير مياه البحر، التى كانت تعرف آنذاك باسم "الكنداسة"، وكان ذلك عام 1348ه، حين أمر موحد هذه البلاد الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- بإنشاء وحدتي تكثيف لتقطير مياه البحر باسم "الكنداسة" لإمداد مدينة جدة بالمزيد من مياه الشرب، ومنذ ذلك الحين توجهت الأنظار إلى ماء البحر كمصدر لا نهائي لإنتاج الماء العذب للشرب والاحتفاظ في الوقت نفسه بمخزون المياه الجوفية للاستخدامات الزراعية والأجيال المقبلة، وقد بدأت عملية إعذاب ماء البحر واستخدامها في المملكة حينما أمر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- باستيراد جهازين لإعذاب ماء البحر بطريقة التقطير لإمداد مدينة جدة بالمياه الكافية، وما تبعه من توجهات لمد أنابيب من العيون المائية إلى المدينةالمنورة وإنشاء العين -العزيزية- ومد شبكة لنقل المياه، وإنشاء خزان لتجميعه ونقل مياه "وادي فاطمة" إلى جدة، والبحث عن مصدر آخر للمياه من "وادي خليص" الوعر، والعمل على مد المزيد من الشبكات في ذلك الحين إلى أن وصلت إلى طول (450كم) رغم ندرة المعدات والخبراء والمهندسين في ذلك الوقت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية. محطة تحلية المياه في الجبيل تنقل كميات كبيرة إلى الرياضوالقصيم وقد ظل الجهازان يعملان بكفاءة وطاقة يومية تصل إلى (35م3) في اليوم لمدة طويلة، وفي عام 1385ه ومع التطور التقني الهائل في مجال الإعذاب أنشئ مكتب في وزارة الزراعة والمياه مختص بدراسة الجدوى الاقتصادية والخطوات التمهيدية لإنشاء محطات إعذاب عديدة في المملكة، وفي عام 1392ه طوّر هذا المكتب ليصبح "وكالة وزارة لشؤون تحلية المياه"، ثم صدر مرسوم ملكي عام 1394ه يقضي بإنشاء "المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة"، وقد باشرت المؤسسة أعمالها بإنشاء محطات أحادية الغرض لإنتاج الماء أو ثنائية الغرض لإنتاج الماء والكهرباء. تحققت المعجزة كان جلب مياه البحر إلى الرياض يعد من المعجزات في وقت مضى، وقد تناول الناس ذلك في حديث مجالسهم، حيث يبدي أحد الحاضرين استغرابه من خبر إمداد الرياض من مياه البحر المحلاة من الخليج العربي، ويقول هذا الخبر وهو بين مصدق ومكذب، فيما ينبري إليه أحد كبار السن في صدر المجلس بالقول أن هذا الأمر غير مستطاع، ويبدأ غيره في التحليل فيقول مستغرباً: "وينا ووين الشرقية؟، بينشف الماء ويخلص ما وصل"، فالمسافة طويلة جداً، ويجيبه آخر:"وشلون بيكفينا الماء من ماصورة تجي من ذيك المسافات"، لكن قوة الإرادة والنظرة الثاقبة الحكيمة البعيدة المدى من ولاة الأمر لا يمكن أن يردها أي شيء أو يقف في طريقها وذلك من أجل توفير كل ما فيه راحة المواطن، قد أخلفت ظنون من كان يستبعد ذلك، فتم مد خط أنابيب نقل المياه من محطة الجبيل إلى الرياض (690 متراً فوق سطح البحر)، وهو خط ثنائي يصل قطره إلى نحو متر ونصف وطوله إلى نحو (465كم)، ويقدَّر معدل تدفق المياه فيه بنحو (830 ألف م3) في اليوم الواحد، وتضخ هذه الكمية من المياه عبر سبع محطات ضخ بقدرة مقدارها (435 ميجاوات)، ويُعد هذا الخط من أكبر خطوط الأنابيب ذات الضغط العالي في العالم، كما يقدَّر طول خط مياه (الجبيل- القصيم) بنحو (773 كم)، بمعدل تدفق يصل إلى (380 ألف مكعب) في اليوم. «محطة رأس الخير» أكبر محطة تحلية مياه في العالم الاستغناء عن الآبار بعد مدّ مواصير المياه على مسافة مئات الكيلوات وتوزيعها على خزانات المحافظات ثم شبكة الأحياء معالم خالدة وتخليداً لذكرى مشروع تحلية المياه الذي غمر القلوب بالفرحة عند قدومه إلى الرياض ومن ثم إلى معظم مناطق المملكة، والذي روى عطش الكثيرين بماء البحر الذي صيره سائغاً حلو المذاق، فقد سمى الناس في الرياض الشارع الذي تقع عليه المؤسسة العامة لتحلية المياه بمسمى "شارع التحلية"، واسمه الرسمي هو شارع الأمير محمد بن عبدالعزيز، أمّا تسميته بشارع التحلية فهي مسمى سابق ويستخدم حالياً بشكل غير رسمي، ويعتبر الآن أحد أرقى الشوارع في الرياض، واشتهر بوجود مبنى إدارة المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة، ومن هنا سمي الشارع بهذا الاسم نسبة لهذه المؤسسة، وشكّل المبنى كالسفينة. وفي محافظة جدة فقد خلدت ذكرى التحلية بإقامة معلم جمالي في أحد الميادين وداخل أحد دواراتها القديمة، وهو قطع أول ماكينة شغلت لتحلية المياه في محافظة جدة، وكانت هذه الفكرة من تصميم الفنان الأسباني "خوليو لافونتي"، الذي جاء الى جدة في مطلع السبعينات الميلادية كمهندس معماري، لكن أمين مدينة جدة في ذلك الوقت "محمد سعيد فارسي" أسند إليه مهمة التخطيط في إدارة التنسيق الحضري، ومن ثم عهّد إليه إدارة برنامج التجميل، حيث أنجز (30) مجسماً جمالياً، ومن أولها استخدام قطع أول ماكينة شغلت لتحلية المياه في محافظة جدة لعمل مجسم جمالي، فوظّف من قطع "الكنداسة" التي كانت تمد جدة بالمياه المحلاة منذ عام 1905م ثلاث أنصاب تذكارية ترمّز لمعاناة جدة التاريخية مع المياه. وتُعد المملكة من الدول الرائدة في مجال تحلية مياه البحر، وتمتلك حالياً أكبر محطة لتحلية المياه في العالم وهي "محطة رأس الخير"، وفي ذلك دلالة واضحة على ما توليه الدولة -حفظها الله- من اهتمام بكل ما فيه سعادة ورفاهية المواطن.