إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ثم أما بعد: فها نحن مع درس آخر من دروسنا في مداواة النفوس، فنسأل الله عز وجل أن يطهر نفوسنا ونفوسكم من الآفات، وأن يرزقنا سبحانه وتعالى من ألطافه والبركات. أيها الإخوة الكرام، إن للنفوس شروراً، فتعوذوا بالله من شرور النفوس، ومن شرور النفوس وآفاتها: ضعف التربية الذاتية. تعريف المرض: وهذا مرض يعرض لكثير من الناس، يعرض لبعض المنتسبين إلى الخير والصلاح والدعوة والتعليم، يعرض للسائرين إلى الله، وإن لم يتنبه له العبد فإنه سيخسر كثيراً يوم القيامة. المراد بضعف التربية الذاتية هو: عدم وجود منهج خاص يتربى عليه هذا الإنسان، فلا يجد له منهجاً إيمانياً أو عبادياً أو علمياً، يتربى من خلاله بل ويسير من غير نهج، ولا ينتهج في ذاته سبلاً للرقي بنفسه وأخلاقه، أو للزيادة في العبادات والطاعات والمداومة والمواظبة عليها. علامات المرض: من مظاهر هذا المرض: التقصير في عمل اليوم والليلة؛ فليست له إلا العبادات الظاهرة الجماعية، أما ورده من القرآن فإنه يتأخر عنه كثيراً، بل قد تمر الأيام وما أتم ورد يوم واحد، وحظه من الأذكار ضعيف؛ كأذكار النوم، أذكار الصباح والمساء، أذكار الدخول أو الخروج من البيت ونحو ذلك، قيامه لليل قليل، بل نادراً ومتقطع، ضعف في العبادات الاجتماعية؛ كزيارة الأرحام، كاتباع الجنائز، ليس له منهج معين يربي ذاته فيه تربية فردية. من مظاهر هذا الضعف: التراجع والتقهقر إذا ابتعد خارج المجموعة؛ فإن كان بين حلقته أو أصحابه فهو يقرأ من القرآن، ويدعو إلى الله، ولا يتخلف عن الصلوات، فإذا سافر عنهم، أو انقطع عن حضور مجالسهم بدا عليه الضعف واضحاً، بل وكأنه ليس من أهل الخير والاستقامة والطاعة. من مظاهر ضعف التربية الذاتية: ضعف أعمال السر؛ فأعمال السر بينه وبين الله ضعيفة، لا تعادل أبداً أعمال الجهر، أو أعمال الجماعة بينه وبين الناس، فليس له حظ من طاعات الليل، والاستغفار بالأسحار ليس له حظ من سماع القرآن خالياً، ليس له حظ من كثرة الذكر، ليس له حظ من صدقة السر، أو يكون حظه منها قليلاً، وهذا دليل على ضعف التربية الذاتية. ذم هذا المرض: أيها الأخوة، هذا مرض، تجد المتعبد متعبداً أمام الناس، وفي مجموعته، ومع أصحابه، لكن إذا انفرد بنفسه ضعفت عبادته، وقلت أعماله، وهذا لا شك أنه مذموم، ستتحسر الأنفس عليه يوم القيامة ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56]، يتحسر الإنسان أن ضيع لياليه وأيامه بغير طاعة لله سبحانه وتعالى، سيتحسر الذي لم يقم الليل؛ ذاك رجل بال الشيطان في أذنه؛ لأنه نام حتى أصبح، سيتحسر الذي لا يذكر الله كثيراً في يوم التغابن، سيتحسر الإنسان الذي ضعف عن عبادة ربه عز وجل. أسباب المرض: أيها الأخوة الكرام، إن وصية رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصية عظيمة يوم أن قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل هرمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك) فما هي الأسباب التي أدت بأنفسنا إلى أن ضعفت في استقامتها وطاعتها لربها عز وجل؟ إن من أجل هذه الأسباب وأظهرها: الوقوع في المعاصي؛ إنها المعاصي، معصية العين، أو معصية الأذن، أو معصية اللسان، أو لقمة أُكلت من حرام، أو خواطر شيطانية خطرت على القلب، هذه المعاصي هي التي تؤدي إلى ضعف الطاعات، معاصي الفرج من الوقوع في الفواحش، أو العادة السيئة، هذه المعاصي هي التي تؤخر الإنسان عن طاعة الله، السبب – أخي في الله – معاصيك، وهذا مؤشر يدل على أن علامة المعاصي متزايدة، ومؤشر المعاصي في ارتفاع، فاتق الله عز وجل، قال الضحاك المفسر رحمه الله تعالى: " ما حفظ أحد القرآن ثم نسيه إلا بذنب، ثم قرأ قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [الشورى: 30]، قال: ولا نعلم مصيبة أعظم من نسيان كتاب الله " هذا علامة، قيل للحسن البصري: يا أبا سعيد، إن رجلاً يحب أن يقوم الليل، ويعد طهوره، لكنه لا يقوم، فقال رحمه الله: " ذاك رجل كبلته ذنوبه "، إنها المعاصي، تحرمك مناجاة الله، وتحرمك التبتل للقيام بين يديه، بل اسمع ماذا يقول هذا الإمام العالم، إمام الورع والحديث، سفيان الثوري رحمه الله، قال: " إني أعلم ذنباً أذنبته حرمني قيام الليل خمسة أشهر " خمسة أشهر ما وفقه الله لقيام الليل، يقول بذنب، هذه علامة الذنب حرمان الطاعة؛ لأن من آثار الذنوب حرمان الطاعات، قيل له: يا إمام، وما هو هذا الذنب الذي حرمك قيام الليل خمسة أشهر؟، قال: " رأيت رجلاً يبكي، فقلت: هذا مرائي " سبحان الله! هذا الذنب حرمه قيام الليل خمسة أشهر، إنها الذنوب هي التي أدت بنا لنتخلف عن طاعة الله عز وجل، ونحرم الأنس بالقرب من الله سبحانه. إن من الأسباب – أيها الأخوة -: الغفلة عن أهمية تربية النفس على الأوراد اليومية؛ فبعض الناس يظنها هينة، والحقيقة أن هذه الأوراد إنما هي الحصن الحصين الذي يحصن الإنسان ويقوي إيمانه، ويشحنه باليقين ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197]، كيف ستواجه هذه الحياة بفتن الحياة الدنيا، وكثرة ملذاتها وشهواتها، وأنت بغير زاد؟ رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، كان يذكر الله بعد الفجر، فيُقال له في هذا، فيقول: " هذه غدوتي، إن لم أتغدها خارت قواي"، فما يتقوى المؤمن إلا بمثل هذه الأوراد من عبادة، وصلاة، وذكر، ودعاء، واستغفار. أخي في الله، لم يطمئن لك الإيمان حتى تطمئن بذكر الله ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، إن من الأذكار ما يحصنك من الشيطان، إن من الأذكار ما يثبتك على الحق، إن من الأذكار ما يجعلك في رفعة الدرجات وتكفير السيئات، إن من الأذكار والأدعية ما يهدي الإنسان ويسدده.إن في قيام الليل ما يحرس الإنسان عن الفتن. إن من صدقة السر ما يقي الإنسان مصارع السوء. فكيف نسينا هذه الأشياء أو تناسيناها؟ لا مندوحة لنا – أيها الأخوة – أن نترك تربية أنفسنا تربية ذاتية على عبادة الله. لعل من أسباب ضعف التربية الذاتية: ضيق طرق التربية، تربية النفس على العبادة، فبعض المربين – للأسف – لا يربي من حوله من المتربين إلا على التربية الجماعية، وهذا خطأ، لو نظرنا إلى العبادات، لرأينا أن هناك صلوات جماعة، نتربى عليها جميعاً، وصلوات نوافل يصليها الإنسان بينه وبين ربه، هناك صيام فريضة نصومه جميعاً وصيام نوافل. إذاً هناك عبادات المقصود بها التربية الجماعية، وهناك عبادات المقصود بها التربية الذاتية، وإذا كان المربي أو المتربي لا يربي نفسه على العبادة الخاصة الذاتية، فإنه لا شك يأخذ نفسه إلى طريق غير طريق الاستقامة الحقة. ليست كل الأنشطة وكل الأعمال وكل العبادات لابد أن تكون جماعية، بل لابد أن يكون لك حظ من أعمال السر، قال أبو داود الخريبي رحمه الله: "كانوا يستحبون أن يكون للعبد عمل سر لا يعلمه أحد، حتى زوجته". آثار المرض: إن من آثار ضعف التربية الذاتية: كثرة الاضطراب، وقلة التوفيق، فتجد هذا – وإن كان عليه سيما الاستقامة – لكنه كثير الاضطراب، ما يشعر بالأنس، ما يشعر براحة الاستقامة، ما يشعر بلذة العبادة، حتى أنه يتعجب لما يسمعهم يتكلمون عن حلاوة الإيمان ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، على قدر إعراضك عن ذكر الله عز وجل تشعر بهذا الضيق والاضطراب، ويقل عندك التوفيق، فلا يوفقك الله. بقيامك الليل، بذكرك لله خالياً، بقراءتك لوردك دائماً من القرآن وعدم تركه، بتحصينك بالأذكار الشرعية، هذا الذي يؤدي إلى توفيق الله عز وجل وعونه وتسديده، أما سمعنا ماذا قال الله في حق يوسف عليه السلام: ﴿.. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾ [يوسف: 24]، هذه قاعدة لكل صالح: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30]. إن من آثار هذه الآفة وهذا المرض الخطير: السقوط في الفتن، فإذا جاءت فتنة أول ما يتساقط هؤلاء الذين ليس لهم حظ من عبادات السر، الذين يفرطون في أعمال اليوم والليلة، الذين لهم استقامة شكلية ظاهرية أمام الناس وليست لهم استقامة باطنية حقة، هؤلاء أول من يكونون حطام الفتن، وحصاد المحن، أما أصحاب الاستقامة الحقة، أهل الخلوة بالله، والأنس بطاعة الله، الذين اعتصموا بالدعاء، واتصلوا بالصلاة، فهؤلاء شيء آخر ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأحقاف: 13]. علاج المرض: أيها الأخوة، إذا أردنا الثبات، فعلينا بطريق الثبات ﴿.. وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]. إذا كنا عرفنا هذا المرض، فما هو العلاج؟ كم عانينا من هذه المظاهر؟ وكم نحن نخاف من هذه الآثار؟ وكم تجلت بوضوح فينا أسباب هذا المرض، فكيف نعالجه؟ وكيف نداوي أنفسنا؟ إن أهم علاج في هذا الباب – أخي في الله – محاسبة النفس ومراقبتها، لا تهمل نفسك، لا تتركها بغير محاسبة، أهملت نفسك حتى تركت وردك من القرآن وحظك من قيام الليل، وقصّرت في جنب الله عز وجل، يقول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، فإنما يخف حساب العبد يوم القيامة، إذا حاسب نفسه في الدنيا"، فكن دائماً تحاسب نفسك وتعاتبها، أما أن تجعلها سبهللاً، تترك الطاعة ولا تسألها، تقصر في جنب الله ولا تحاسبها، فأنت حقيقة تهمل نفسك ولا تربيها، ولنعلم أن مقامات المحاسبة ست مقامات: أول مقام: شارط نفسك؛ اجلس مع نفسك وشارطها على أن تقرأ كذا من القرآن، على أن تصلي كذا من الليل، على أن تأخذ كذا من الذكر، على أن تفعل كذا من طاعات، زيارة الأرحام أو عيادة المرضى وغير ذلك، شارطها. المقام الثاني: أن تراقبها، تظل تراقبها، هل تفعل هذا في وقته أو لا؟، المقام الثالث: أن تحاسبها، فإذا جاء آخر الليل أو آخر اليوم جلست كل يوم مع نفسك جلسة محاسبة، ما الذي فعلته؟ وما الذي تركته؟، المقام الرابع: أن تعاتبها، تبدأ تعاتب نفسك وتلومها، تعاتبها بنصوص الكتاب والسنة، تعاتبها بخوف النفاق وسوء الخاتمة، المقام الخامس: أن تجاهدها، تحملها اليوم الثاني حملاً على ما تركته، وتلزمها به إلزاماً، المقام السادس: أن تعاقبها فإن لم تستقم لك فعاقب نفسك، احرمها من بعض المباحات، احرمها من بعض ما تحب، حتى تستقيم لك على طاعة الله: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ فهي ست مقامات، يقول فيها الناظم: شارط النفس وراقب *** لا تكن مثل البهائم ثم حاسبها وعاتب *** وعلى هذا فلازم ثم جاهدها وعاقب *** هكذا فعل الأكارم لم يزالوا في سجال *** للنفوس محاربينا فاز من قام الليالي *** بصلاة الخاشعينا العلاج الثاني بعد معالجة النفس بمحاسبتها: وجود القدوات بيننا، القدوات الذين يلازمون العبادات، فيسارعون إلى الصف الأول، ويكثرون من الدعاء بين الأذان والإقامة، ولهم حظهم من قيام الليل، ولهم حظهم من ورد القرآن والأذكار، مثل هؤلاء إذا رآهم المتربي سار معهم على الطريق، فكن أنت القدوة، واجعل غيرك يقتدي بأفعالك قبل أقوالك، وتابع هؤلاء المتربين، حتى يتربوا من صغرهم تربية صحيحة على الاستقامة الحقة. أخيراً – أيها الأخوة – من العلاج: محاولة التوفيق بين المواظبة على عمل اليوم والليلة، وبين سائر الأعمال، قد تتعذر أنك مشغول، لكن هذه الليلة مشغول وسهرت فلم تقم الليل، والليلة الثانية والثالثة والرابعة إلى متى ونحن نقصر في جنب الله عز وجل؟ بحجة أننا مشغولون، وهل كان الذين قبلنا في عطل عن العمل؟ كانت لهم أعمال، ولهم مشاغل، لكنهم لازموا طاعة الله عز وجل. أخي في الله، إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، واجتهد أن تربي نفسك، وأن تجدول أعمالك بما يعينك على طاعة ربك. إننا لو عشنا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأنا في سيرته، إننا لو عشنا أخبار الأنبياء وقرأنا في كتاب ربنا، لوجدنا أنهم ما تركوا أبداً على عظم مهام الدعوة إلى الله وإبلاغ الرسالة، ما نسوا حظهم من العبادة والطاعة والذكر، وأعمال السر. فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، وأن يزيدنا هدى وتقوى، اللهم زكِ أنفسنا، اللهم وخذ بأيدينا لما تحب وترضى، اللهم وألزمنا كلمة التقوى، اللهم وثبتنا على العروة الوثقى، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري