يعد محمد بن عبدالرحمن بن سعد العُمري المعروف ب(عبدالباري )وأحداً من أهم شعراء تهامة الباحة في القرن الماضي وهوومن أهالي (قرية القفيل )ببني عاصم إحدى قرى بني عمر الأشاعيب (يقطنون المناطق الواقعة إلى الشمال من محافظة المخواة ولايعرف متى ولد لكنه توفي في العام 1396ه) شاعر فحل وعلم في مجال الشعر لكنه بكل أسف لم يحظ بالظهورالإعلامي كما لم يحظ شعره بالدراسة المتعمقة والتأمل لأسباب متعددةليس المقام مقام مناقشتها والإسهاب في تفنيدها وإن كان من إبرزها عدم لم شتاتن شعره في ديوان يسهل القراءة المتأنية وقد نصبه القدماء فارساً للشعر وعدوه من أبز شعراء جيله في منطقة الباحة على وجه العموم وتهامة على وجه الخصوص والقدماء في تلك الحقبة أهل ذائقة شعرية عالية أكتسبوها بحكم قربهم من الشعر وتعلقهم به ومن الطبيعي أن تكون هذه المعطيات ميزة تقربهم من الحكم الموضوعي فقد كان الشعر لهم (حكمة - وموعظة وتقريب وجهات نظر - وتعبير عن الوجد والحنين والمحبة والغضب أوداة تعبير وتغيير)بل كان الشعر نافذتهم نحو الهدوء والإرتياح النفسي سواء عن طريق البوح أو عن طريق ممارسة الشدو والحداء والترنم به والتلذذ بجميل معانيه وموسيقاه ويمكن وصفه بأنه حياتهم باختصار وكانوا به يقشرون أوجاعهم ويطفئون لهيب ما أعتمل في نفوسهم من احزان أو وجد أو وله )ومن المعروف أن الشعر كان لهم في مسامراتهم بمثابة قناة ترفيهية كما هو حال الإنترنت والتلفاز اليوم والمذياع في عصور خلت وكلنا يذكر كيف كانت المسامرات لا تخلو من الشعر والمعاكظات والألغاز وكان التمكن من الشعر والإغراب فيه يمنح الفرد مكانة وتميزا ومن بديع الغازهم الشعرية قول أحدهم (إشريلكم من سبع مطلعات - تهم تسبق نزعة الثبات - لها ورق مصلعات - من غير لا ماي (ن) ولا ثرى) ولكون الشعر كلام سلس مطواع أدعى للترديد وأبقى في الإفهام والحفظ بسبب جرسه وموسيقاه فقد كان ذاكرة لمجتمعات لا تجيد التدوين ومجتمع يحتل الشعر فيه هذه المكانة يجب أن نثق في مصداقية حكمهم على الشاعر ماأدهشني حقاً عندما وقعت تحت يدي بعض قصائده هو أنه طرق في شعره عوالم لم تكن معروفه في عصره أظهرت لنا أن هذا الشاعر سبق مجايليه وكما أسلفت فقد عاش يرحمه الله في حقبة زمنية يسود فيها الجهل والأمية والإنسان في تلك الحقبة مسحوق بالبحث عن لقمة عيشه وبالكاد يجد مايسد رمقه فهو مشغول بقوت يومه وعياله ورغم هذا الظرف الحياتي المهلك إلا أن (عبدالباري)كان يستحضر الكثير من فنون الأدب وعلومه وأدبياته بتمكن ووعي ومهارة. ففي قصيدته القادمة تجده يأتي بقصة حوارية على ألسنة الحيوانات تأخذنا إلى أجواء (الشعر الملحمي ) و(كليلة ودمنة )و(أحمد شوقي ) وآداب الأغريق والرومان والهنود فهل كان عبدالباري على إطلاع على آداب تلك الأمم ؟؟ وهل قرأ كليلة ودمنة وتأثر بها مثلاً؟؟ كذلك فإن هناك ملمح آخر متميز يدل على التفرد والثقافة الواسعة ففي هذه القصيدة ما يؤكد أن (عبدالباري) خارج سياق عصره فقد ذكر أسم حيوان لم تعرفه هذه البلاد ولم يعرف فيها حتى اليوم (فالفيل) وإن ورد ذكره في القرآن الكريم ولكنه كما نعلم حيوان يعيش في أفريقيا والهند ونواحي الأمريكتين مما يجعل أمر إستحضاره دوماً أمر غريب فمن أين عرف عبدالباري خصائص الفيل وسماته ليشركه في هذه المحاورة الشعرية وكأنه يعرفه معرفة تامة وعن قرب ؟؟ هل كان يقرأ ل (أحمد شوقي)بحكم أنه عاش في حقبة معاصرة تقريباً لشوقي وبكل تأكيد فقد سبق بها عوالم (ديزني لاند وأفلام الكرتون) حيث الحيوانات هي موضوعها الرئيس وبطلها الأول تجري بينها ألأحداث المختلفة ويستمر السيناريو حتى يصل المؤلف (شاعراً أو كاتباً) للهدف وقد سبقهم (عبدالباري إلى هذا التوجه أو على الأقل كان عالماً به وبتأثيره في المتلقي فأستخدمه بوعي) وبالعودة إلى (فيل عبدالباري) يحق لنا أن نتساءل هل سافر عبدالباري إلى حيث يوجد الفيل مثلاً ؟؟ ؟ ثم أن الهروب إلى عالم الكائنات الآخرى من غير بني البشر مؤشر على أن لعبدالباري مقاييس ومواصفات خاصة وأن لديه ثقافة غيرمألوفة في زمنه كذلك فالأسطورة والرمز حاضرتان في شعره بكثرة ومن المعروف أنهما أداتان من أدوات الأدب التي لايفطن لها إلا بارع ولا يجيد توظيفها إلا شاعر جهبذ (ومن المعروف أن الأساطير مرتبطة بوجود الإنسان فمتى عجز عن تفسير أمر ما أحاله إلى الأسطورة (ومن الأساطير التي تروى في الميثولوجيا المحلية )والتي سمعناها ونحن صغار في (روايا ) وحكاوي الجدات (أن الحيوانات والحجر والطين وكل ماعلى الأرض كانت تتكلم في زمن ما )هذا حتى قبل أن نتعلم قراءة القرءان ونجد فيه (أيات في بعض السور تكلمت فيها الحيوانات مع سليمان عليه السلام وحاوره فيها (الهدهد ) و(عفريت من الجن ) وحديث النملة لأخواتها محذرة من أن يتعرضن للدهس من سليمان وجنوده أما الرمز فهو حاضر في شخص الفيل والثعلب والأسد والضبع (الجعيرة)فكل واحدا منها كان رمزا لشخص يمثل المعادل الموضوعي لهذا الرمز الملمح الآخر في شعر محمد عبدالباري وهو أنه عنى بخواتيم قصائده عناية فائقة ومن المتعين والمعلوم أنه لايوجد فن أدبي إلا وقد أولى عناية خاصة للخاتمة بحكم أن الأدب بناء والبناء دون سقف لا يعتبر تاماً يصبح الكلام غير تام مما يؤدي للضعف في البناء وعدم الفهم للمقصدوالمراد والغاية والإهتمام بخاتمة القصيدة دليل على وعي الشاعربأسياسيات بناء القصيدة وبأهميةهذا الجزء وقد يغفله الكثير من الشعراء لحساب الإهتمام بالمطلع رغم الأهمية القصوى لخاتمةالقصيدة لكونها بمثابة القفل لها ولكونها آخر مايسري في النفوس ويتبقى في الوعي وغير الوعي ويقول أبن رشيق (ومن العرب من يختمُ القصيدة فيقطعها والنفس بهامتصلة ، وفيها راغبة مشتهية ويبقى الكلام مبتوراً كأنه لم يتعمد جعله خاتمة )ويقول (لاكروا ) (أن الشعر لا نهاية له والشاعر هو الذي يفرض النهايةليقطعه ). وللحديث صلة العدد المقبل بمشيئة الله.