يقول الله تعالى فى كتابه الجليل (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين) صدق الله العظيم. ومن تفسير الآية الكريمة نفهم أن الإختلاف ليس أمرا مقبولا فقط, بل وجب علينا أيضا حمايته والدفاع عنه, لأنه مشيئة الله تعالى على الأرض, والتى لاتقبل التبديل, وقد كفل الإسلام للبشر عامة, وللمسلمين خاصة هذا الحق, فحق الاختلاف فى الرأى هو حق أصيل من حقوق الإنسان فى المنظور الإسلامى, وهو قيمة عالية من القيم الإنسانية, يجب إدراكها من جانب المجتمع والتعامل معها بوعى. وأن اعتناق الإنسان لفكر معين ليس بالأمر السهل ، فالاعتناق يعنى الإيمان ، والإيمان يسبقه وفاق للعقل والنفس معا, لمعطيات تلك الفكر، وهذا الوفاق هو نتاج رحله بحث, يشعر بعدها الإنسان بتجانس روح هذا الفكر مع طبيعته وميوله ، حيث يصير الفكر بعدها غذاء للروح أكثر منه غذاء للعقل, يوجب عليه إعمال البحث فيه, لهذا يكون رد الفعل المبدئى تجاه الأحداث نفسيا, ويقوم بعد ذلك العقل بتحليل الحدث تحليلا يتفق مع أهداف وروح هذا الفكر, حتى وإن تجنب بعض من الحقائق, أو قفز فوق بعض الأحداث, فهو يبدو لصاحبه منطقيا, ويكون دائما مستعد للدفاع عن موقفه, بإيمان حقيقى، وهو ما يراه البعض أحيانا تعصبا, لأن صاحبه يتجاوز عن بعض الأحداث والحقائق, ولكنه فى الحقيقة هو حالة دفاع عن الفكر الذى آمن به, وأصبح جزء من تكوينه النفسى والعقلى, وبشكل عام يمكننا القول بأن معظم البشر تتكون معتقداتهم بهذه الطريقة, وهكذا أيضا يبنون أفكارهم, ويستثنى من ذلك بعض من الصفوة المثقفة حيث العقل والعلم هما مرجعيتهم الوحيدة. والعقل ليس هو دائما الحاكم بأمره فى تكوين الرأى, فما يحدث يمر عبر قنوات فى النفس تتفق مع طبيعة ونزعات الإنسان, ويكون لها التأثير الكبير فى شكل وطريقه وصول الحدث إلى العقل, حيث يبدأ بعدها فى إجترار رصيد المعرفة, حسبما وصله عبر هذه القنوات, وليس عبر ما يراه ماثلا أمامه، وهذا ما يفسر لنا التباين والإختلاف الكبير فى الاآراء تجاه الأحداث. أعتقد كذلك أن إلقاء التهم على صاحب الرأي المخالف, يخلق حاجزا نفسيا بينه وبين محاوله الخروج من قفص المذاهب والأيدلوجيات, أو قوالب الفكر الجامدة أوحتى فى محاولة مراجعه النفس أو….. فالتراجع والتنازل عن الرأى وبخاصة فى الثقافة الشرقية, يرتبط عند الكثيرين بمفهومى الكرامه وعزة النفس ، كما أن السخريه والتفكه لتسخيف رأى مخالف, يبعد صاحبه عن المضمون, بل يشيع جوا من الاستفزاز والتحدى, تقوم بسببه خلافات وصراعات لاطائل ورائها. إن الوعى بطريقة تكوين الرأى, تجعل الإنسان المستقبل للرأى الاّخر, مدركا للدوافع الحقيقية لمخالفيه, و هذا الإدراك ينأ به عن إلقاء التهم, ويساعده على سلامة التقدير للرأى الاّخر, وذلك لإرتكازه على فهم عميق للرأى المخالف, وهذا من شأنه أيضا أن يصل بالأطراف المتحاوره إلى الأصوب, وهو ما ينشده الجميع. فالإرهاب الذى نواجهه دائما ما ينهل من منابع الفراغ الفكرى والعاطفى, لدا فتكوين الهوية الفكرية وصياغتها, أمر فى غاية الأهمية لمحاربته, فطونحن بحاجة الى إستراتيجية تتبنى فى أهدافها مشروع تنموى, تشترك فيه كافة أطراف الثقافة. فقضية "الأمن الفكرى" واقع ملموس,وليس مجرد قضية بحثية فلسفية تناقش فقط فى غرف أكاديمية,ولا مسألة رفاهية فكرية, بل أن تبنيها ضرورة , وخاصة فى ظل ما فرض على عالمنا ومجتمعاتنا العربية تحديدا من واقع ملىء بالانحرافات الفكرية فى مناحى عديدة.