يقول الأديب أنيس منصور إن الإنسان إذا اعتاد على شيء فإنه يفقد الإحساس به . كأنه يريد أن يقول إن عاداتنا تغتال مشاعر البهجة فينا ، وأشياءنا التي تعودنا عليها كذلك ، فلماذا نسمح بكل هذا ؟ إن الإحساس لكي يصل إلينا حسب علم وظائف الحيوان ( الفسيولوجيا ) يتطلب أمرين أولهما وجود المؤثر وثانيهما حالة المتأثر ، والأخيرة مرهونة بسلامة الجهاز الحسي الإدراكي ( المخ وملحقاته ) ، فإذا اعتبرنا أن الأمرين في منتهى الفاعلية فلابد من أن ينعكس ذلك على فاعلية الحس الإنساني سواء كان الإحساس جسدياً عضوياً أو إحساساً وجدانياً داخلياً ، لكن بعض هذه الأحاسيس قد تتلاشى مع التكرار فتغرق تنبيهاتنا في بحور من الأحاسيس المتلاحقة فينشغل ( المخ وملحقاته) بالمؤثرات الجديدة متناسياً كل قديم ، لنأخذ عزيزي القارئ هذا المثال ؛ تخيل أنك قدمت ( سيجارة ) لشخص لم يدخن في حياته مطلقاً.. وطلبت منه أن يدخنها كاملة.. فهل تراه يستطيع ؟ وإن استطاع هل تجد تعاطيه مع هبابها وحرقة دخانها كمن قضى جل حياته مدخناً ؟ لا أظن ذلك مع أن الشخصين لديهما التركيب التشريحي ذاته والوظائف الحيوية ذاتها.. أي لا فرق بينهما ؛ وإنما الفرق الوحيد هو ما حاول الأديب أنيس منصور إيصاله ، وهو أن أحدهما اعتاد على السيجارة فلم يعد يشعر بها بينما الآخر لم يشعر بها وحسب بل اختنق وكادت نوبة السعال أن تقضي عليه . الحقيقة أن السيجارة في التشبيه أعلاه قد لا تكون السيجارة التي نعرفها جميعاً !! فربما المقصود بها وضعك الاجتماعي .. أو وضعك الاقتصادي .. أو وضعك الوظيفي . وقد تكون السيجارة جهلك .. كسلك.. ترددك.. يأسك أو أي شيء سلبي آخر أصبح من فرط التصاقه بك مندمجاً مع ذاتك وفكرك وشخصيتك للحد الذي لم تعد تشعر بتأثيره عليك . والمعنى أن لكل منا سيجارة تهيمن عليه.. عدوة لدودة متخفية تتوارى تحت ثوب نسميه " هكذا تعودت " . إن أشد العقبات شراسة هي تلك التي لا نراها ولا نشعر بها ، فقط تجثم بسكون فج على كل مداركنا وأحلامنا ورغبة التطلع لدينا، تماماً كتلك السيجارة التي يجد صاحبها صعوبة في الإقلاع عنها ، ولا أدل على ذلك من تجارب المدخنين الذين نجحوا في تجاوزها وما كادوا يفعلون لولا تفهمهم بأن وراء هذه الصعوبة عداوة قطعية فضحتها مقاومتها الشرسة لرغبتهم في مفارقتها، كذلك بقية عادتنا السمجة ..لن يكون من السهل علينا التخلص منها مالم نصدق بأنها غير صالحة وأنها تقف حائلاً بيننا وبين التنعم بحياتنا. تقول الكاتبة والروائية الأنيقة أحلام مستغانمي : "الطريقة الصحيحة لفهم العالم هي في التمرد على موقعنا الصغير فيه ، والجرأة على تغيير مكاننا وتغيير وضعيتنا" ، إذ ليس بالإمكان استشعار جمال مشاهدة المدينة من فوق ناطحة السحاب من دون( تجربة ذلك )، وليس بالإمكان التلذذ بحياة خالية من سيجارة نتنة من دون ( تجربة ذلك ) ، وليس بالإمكان استشعار طعم الانطلاق والتحرر من عادة قبيحة من دون ( تجربة ذلك ) وليس بالإمكان ( تجربة ذلك ) من دون أن يكون للإنسان استعداد ذاتي وصادق لخوض التجربة ، هكذا هي الحياة لمن يريد أن يعيشها بإحساس ولذة .. خروج من قوالب العادات والاعتيادات إلي رحابة التجارب والتجديد. وإلا فليعد المرء نفسه ممن يغتالون إحاسيسهم بدم بارد.. أحد أولئك الذي أختاروا البقاء على قيد الحياة فقط ؛ لا من يحاول أن يعيشها كما يجب.