عند قراءة عدد من الأعمال الروائية التي قد يكون من أواخرها عمل الكاتبة الكويتية ميس خالد العثمان '' عقيدة رقص '' ، قد تعود إلى النفس أسئلة درجت على أن تطل برأسها في مجالات عديدة في الحقبة الأخيرة . من الأسئلة أو التساؤلات واحد يتعلق بما غدا شبه مسلّمة عند عدد كبير من النقاد ودارسي الأدب، وقد عبروا عنه بما معناه أن الرواية في العالم العربي أزاحت الشعر وحلت محله، أو أن عهد الشعر انصرم فحلت محله الرواية، وتحولت إلى '' ديوان العرب '' الجديد . وهذا التساؤل لا يغفل عن أمر هو أن الشعر - وعلى رغم سيطرة ما سمي بالاتجاه المغرق في الواقعية بسماته الآلية التي تطبع كثيراً من أعمال هذه الأيام كان ولا يزال '' يسكن '' كثيراً من الكتابات الروائية ويعطيها حياة وإيحاءً شرط أن يغني الكتابة القصصية . الكتابة القصصية الشعرية إذن ليست أمراً طارئاً، بل هي عريقة في الحياة الأدبية .لكن ربما بدا لقارئ عدد من الأعمال الروائية العربية في هذه الحقبة أن الشعر '' معبود العرب '' التاريخي الذي كان قد تربع لزمن طويل على عرش الأدب العربي والذي قيل إن عهده أفل وحلت الرواية محله قد عاد في شكل آخر .لقد عاد وتلبّس كثيراً من الأعمال القصصية العربية . والشعر في هذه الحال، وعلى عكس ما ألفناه في '' الرواية الشعرية '' ، لا يشكل على رغم حرارته وتأثيره قيمة إضافية، بل هو أقرب إلى ما يسمى '' حمولة إضافية '' .إنه يرهق العمل الروائي ويحول كثيراً من أنماطه الى شعر يتخذ شكلاً قصصياً .كأن الأمر عند البعض يجسد ما يحمله المثل الإنجليزي الذي يقول '' العادات القديمة يصعب أن تزول '' ، ونستطيع في هذه الحال أن نقرأه كما يلي : '' الحب القديم يصعب ان يموت '' . أما الاحتمال الآخر فربما كان أشد '' ايذاء '' إذ يظهر عدداً من الكتاب العرب في حال تشبه العجز عن فهم العمل القصصي، وأنهم - على عكس نخبة كبيرة من الروائيين - في حاجة الى مزيد من الزمن والتخمر والممارسة .وقد يشعر القارئ الناقد أن ما يقال اليوم عن تداخل الأجناس الأدبية وزوال الحدود بين مختلف الانماط لا ينفع في تبرير أعمال من هذا القبيل . ولابد من القول إن في كثير من هذه الأعمال نتاجاً شعرياً جميلاً ونصوصاً قصصية موفقة، لكن المأخذ يبقى على تلك '' الكيمياء '' التي سعت الى المزج بين الاثنين، ولم تدرك ما قد يؤخذ على العمل في مثل هذه الحال . رواية ميس خالد العثمان شكلت مناسبة تذكرنا بهذا الأمر .ولاشك أن هناك ظلماً كبيراً للكاتبة وللكتاب إذا تصورنا هذا الكلام وصفاً لعملها المؤثر في كثير من المجالات أو حتى تعليقا عليه، إنه نافذة تذكرنا - ربما لأن فيها قدراً كبيراً مما يؤثر بهذا الاتجاه . ورواية ميس خالد العثمان الكاتبة والصحافية التي جاءت في 145 صفحة متوسطة القطع صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .والرواية '' عراقية '' مسرحاً وأحداثاً ومشاعر . تبدأ الكاتبة بكلام تحت عنوان '' إضاءة '' تنقل فيه عن قاموس المورد للدكتور روحي البعلبكي عن معنى '' رقص '' .نقرأ بعد ذلك كلاماً من رواية '' زوربا '' لليوناني نيكوس كازانتزاكي هو '' لدي أشياء كثيرة اقولها لك لكن لساني قاصر عن ذلك، إذن سأرقصها لك '' ، وتحت عنوان هو '' ما قبل الإهداء '' كلمات من '' اوشو '' عن الموسيقى وأن يعيش المرء الحياة كرقصة .بعد ذلك وفي مسك ختام قبل الإهداء صفحة من الشعر لشاعر من الكويت هو محمد هشام المغربي، ومن قوله '' بغداد يا وطني '' السراب '' الغائب '' المغروس في لحمي '' محال أن يفسر موقفي احد ...'' وينتهي بالقول '' سنعود يا أرضي نقبل تربة عيّت خضوعاً '' خلّفتنا ها هنا رغم المنافي شامخين .'' وتحت عنوان هو '' تستدير الى الأبد '' تبدأ الرواية شعرياً وبجمال معرّفة بالبداية فتقول '' قمرنا كان هلالاً ... تتدلى منه نجمة متأرجحة تتوارى بطفولة وراءه .بقيت أبحلق به لأنني كنت اظن أن القمر غادر سمانا ..غادرنا ..ترك '' دجلة '' وحكايات الناس التي كانت تذكي ضوءه كلما ند سر جديد من افواههم ..كنت على يقين أن القمر قد تركنا فعلاً ..فاسحاً المجال لهرطقات الشيوخ على المقاهي ولعب الطاولة وثرثرات النساء ومرح الأطفال ...'' في سبتمبر 1989 في آخر ليلة من بلد '' اللاقمر '' قالت تلك العجوز التي زارتنا كالمصادفة الثقيلة وتفننت في تمزيق ساعاتنا الاخيرة ..مع أسرتي كنا نفترش حبنا، ونلوك كل الحكايات التي ترسبت في ذاكرة اعطبتها الحروب '' الالم '' الخوف '' السجن '' والهرب المتواصل ..'' قلت ..الغيم يتوالد ..والقمر يندس ليختفي مجدداً ..قالت العجوز : القمر غادرنا منذ زمن ..الى هناك رحل ينظر الينا بعين منكسرة فضل تلك الأرض التي تحييه كل مساء بالقرآن والنور والصلوات . وبعد نضال ودخول السجن قررت البطلة أن تهرب من العراق .تقول : كنت جاهزة كي اولد بعد ساعات من رحم أرض اخرى .وتقول عن أمها الباكية ولها : كنت اشاطرها البكاء دون ان احدد سبباً واضحاً لله، لكنني كنت أتمنى لو اصرخ بكل ما اوتيت من شباب : بأنني لا احبكم وبأنني ! وبأنني سأدفن نفسي في رمل غريب لأنني مختلفة ولأنني ورثت التمرد عن ابي .تركب السيارة التي سيسير بها سائقها جنوباً، تضع الكاتبة بعد كل بضع صفحات عناوين شعرية منها مثلاً " كل شيء مكبل ..من يستطيع منعك من استذكار اجمل أيامك ..من يحشر نفسه بينك وبين شاعرية الأشياء " .تتحدث مع السائق الذي سألها عن سبب مغادرتها العراق بعد انتهاء الحرب فتقول : '' أصارحه بأن هذا الوطن اللعين لم يمنحني سبباً واحداً لأحبه بجنون .لا تصدقني ..ربما كل ما حدث ويحدث لي لأنني أحبه بطريقتي الخاصة جداً تلك التي لم يفهمها حتى أقرب الناس الى روحي . في الرواية تراكم عن الآلام والمآسي التي تنتج عن الحرب في العراق ولبنان وغيرهما من خلال ضحايا لها جمعتهم زمالة عمل وصداقة في الكويت، إلا أن هذه القصص المفجعة والرهيبة لا تضيف كثيراً الى العمل الروائي وتكاد تكون نفس الصور التي تحفل بها أعمال اخرى فاشكال الموت العديدة لم تعد غريبة على الإنسان العربي في شكل خاص . المهم هو الرؤية التي تستخدم فيها هذه القصص لتوصل الى غاية فنية او إنسانية معينة، فلا يقتصر وقعها على مجرد اثارة التفجع .في الفصل الاخير من الرواية تبرز سمات العمل كلها او جلها وتصوير لنهايات تبقى حزينة في كل الوانها .وعنوان الفصل هو '' ملطخ بالتوت '' وهو يبدأ على الشكل التالي : '' انتفاخ ! هل تمضي الحياة هكذا؟ علامات حمراء ..يومان أقل ..خمس أكثر ..اقلب حزن اجندتي ..لتتقافز '' نقاطي '' القانية بايام تظل تتباعد وتقترب من دون كلل .وحدها مزاجية الايام تتشابه بينما يتنامى على جلدي مؤشر الاحساس بالالم الى درجة لا يغفرها جسدي .'' ميس خالد العثمان كاتبة وشاعرة تترك أثراً في النفس دون شك، لكن قد يكوّن القارئ انطباعاً بأنها لو كتبت النص الشعري منفصلاً ليأتي ابناً للتجربة الشعورية الخاصة به لجاءت بشعر جميل ولجاءت نصوصها القصصية أكثر تحرراً ورسوخاً بدلاً من سقوط الحمولة الزائدة عن الشعر والرواية كليهما .