قرص الشمس يغازل في ساعات ما قبل الغروب جبل شدا التهامي العملاق , يختبئ حينا بين السحب السوداء ويظهر حينا آخر , وقد بديا كعشيقين شفهما الوجد واضناهما البعاد . لحظات فارهة من العشق تدور بين السماء والأرض , هدوء المكان استحال لحظة وَجدٍ بطلاها من الطبيعة - شمس وجبل - عندما راحا يعزفان قطعة موسيقى من الغزل الشفيف . وفي مكان ما من الجبل المسافر إلى السماء , كان يقبع بيت هادئ , يتراص مع مجموعة قليلة من الدور , يشكل معها قرية صغيرة مشنوقة في سفح ذلك الجبل . في ذلك البيت شيخ مسن يعيش حياة بسيطة مع زوجته المسنة أيضا , وبينهما ابنتهما الصغرى - خديجة - اخر العنقود ومهجة الفؤاد . خديجة .. البنت الحالمة , بارعة الجمال , وذات العشرين ربيعا , تفيض أنوثة وتتفجر حيوية , كأنما أخذت من " شدا " سحره وعنفوانه وكبريائه , وعلى الرغم من شظف العيش وضيق ذات اليد لأبيها وحياة الكفاف التي عاشتها , إلا أنها كانت ينبوعا من الصبر والذكاء والجدية , دلّ على ذلك تفوقها على قريناتها في مراحل التعليم الثلاث - الابتدائي والمتوسط والثانوي – بل وإصرارها على التعليم الجامعي الذي انتزعت شهادته من فم الأسد - أسد الظروف الحالكة . ذات مساء شعرت خديجة بانقباض غريب , أحست كما لو أن واحدة من صخور " شدا " تجثم فوق صدرها وتكتم أنفاسها ... هزت رأسها بعنف رجاء أن تطرد ذلك الكابوس ... -خير .. اللهم اجعله خيرا .. ( قالت وهي ترتجف ) . وبفطنتها أحست أن شيئا ما سيحدث , شيء مزعج لا محاله يلوح في أفق توقعاتها .. هكذا كان حدسها , وبالفعل ماهي إلا ثوان معدودات حتى زف لها والدها المسن - ما كانت تراه هي نعيا - خبر طلب " عثمان " ابن خالتها ليدها زوجة على سنة الله ورسوله . وما إن تناهى إلى سمعها النبأ حتى تجمدت أطرافها وجحظت عيناها وأنفغر فاها .. وراحت تسبح في بحر من الذهول , كذهول من كانت تعتصره حمى الملاريا التهامية , ولما أفاقت صرخت بأقصى ما لديها , وبانفعال وتمرد على والدها هو الأول في حياتها , صرخت تردد ... لا – لا .. يا أبي .... , لا أريده .. لن أتزوجه أبدا ! ثم انخرطت في بكاء هستيري , وسهرت ليلتها تلك تتجرع لوعة الفاجعة , فاجعة أن تتزوج بشاب عاشت تراه كثرا , معتبرة إياه أخ لها ليس أكثر , كانت تراه كواحد من أشقائها الثلاثة بالضبط , لا فارس أحلامها الذي كانت تنسج صورته بعيدا جدا عن " عثمان " ابن خالتها هذا . لكنها ما كانت تدري أن كل شيء قد انتهى , وان موافقتها مجرد تحصيل حاصل , فقد تقرر موعد الخطوبة والمِلكة معا - نهاية الأسبوع القادم . جاءت اللحظة التعيسة بكل أثقالها , أكتمل عقد الجالسين من الأقارب الخلص , وعثمان يزهو في مشلحه الابيض , عريسا تنضح من ثغره ابتسامة لا تخفت , فيما خديجة تتظاهر بالفرحة , وقد توشحت ملابس عادية ليس فيها دلالة على البهجة , جلس العريسان متجاورين امام العائلة , التفت عثمان الى عروسه ليلبسها دبلة الخطوبة مدت يدها بتثاقل , أحمر وجه العريس , توجس , ثم طلب خدمة التصوير , رفضت جميلة , عبّس عثمان , نظر للعروس ثم للحاضرين , ثم غادر غاضبا . وصلت رسالة خديجة إلى عثمان .. وبعد أسبوع كانت برفقة والدها أمام القاضي , لإنهاء " مراسم " الطلاق .. طلاق من دون أن تتم " الدخلة " .