يضع المبلغ أمامي، رزماً من الورق الأزرق يتوسط كل ورقة صورة مؤسس هذه البلاد، رائحة الأموال وهي جديدة تعطي شعوراً مختلفاً، وملمسها ناعم ولكنه حاداً وقاطعاً، يسير بخطوات ثابتة، هادئ كموج بحرٍ يتناغم بألحانه ليصل لشاطئ لا يعرف غايته وسبيله، يودعني بكلمات قصيرة، لا لم يودعني بل نطق بحكمه الذي أصدره وغادر، لم يترك لي حتى لغة الدفاع الوحيدة التي تشتهر بها كل النساء، أغرق في ذهول المفاجأة بل أبلع آهاتي التي تكاد تشق صدري، أتلفت حولي ماذا أفعل هل أبكي، وهل يجدي البكاء؟؟ هل أصرخ بأعلى صوتي، ومن سيسمع الصوت؟ وماذا سيقول سامعه عني!! هل ألطم، وهل تفيد حرارة الصفقات لأفوق مما حل بي، ماذا أفعل، المكان يضيق بي، الجدار تطبق على أنفاسي، لا مكان لي بعد اليوم، لا سامع لشكواي بعد الآن، ماذا حل بي، وأي زلزالٍ ضرب أركان نفسي ليشق عالمي كله، ليغرق كل سنوات عمري الخامسة والستين في بحرٍ هائج، تتلاطم أمواجه تريد المزيد، المزيد. يا ألهي ماذا ألم بي، آلام العالم كلها تعتصرني وأنا جالسة أتوسط سريراً كان سريري، وغرفة كانت بيتي وسكني، وبيتاً كان في ما مضى عشي ومملكتي. دموعي تنهمر كديمة حزينة تختنق ببروقها ورعودها، سحاب ثقيل يكاد من حمله أن ينزلق فيهوي إلى الأرض بخيره فيتكوم قطعة من القطن الأبيض الثقيل غير المفيد على وادي هو لدموعه اعطش. اضرب من الغضب فخذي، وافرك يدي بقوة لعل الألم الصادر منها يعيد لي إحساسي، لا بل لعله يفيقني من حلمٌ بينته بشبابي، بسنوات عمري الذابلة، لم أكن أعلم أنها ستذبل بل توقعت أنها بنمو براعمي ستكبر وتزهر، كنت احلم أن السنوات تزيد من تثبيت جذوري في الأرض، بل كنت ياقنة أن الأغصان التي أخرجتها من أحشائي ستضمن لي بتشعبها ونموها البقاء ثابتة. تصورت أن كل تلك السنوات التي قضيتها في خدمته، وفي رعايته، وفي طاعته، وتربية أولاده حتى كبروا، وطاروا من العش ستشفع لي. ولما تشفع لم أفعل ما يستحق الشفعة، بل ظننتها ستقويني وتمنحني الخلود في حياته، لم اطمع بحبٍ يغرق الأوراق حروفاً، ولا في عشقٍ يورق الأغصان سريعاً، بل طمعت في البقاء أماً لأبنائه وزوجة في أوراقه. أردت فقط الاحترام، الشكر على ما بذلت من اجله، من اجل أبنائنا، وبيتنا، من اجلنا جميعاً، سنوات عمري حرثتها بيدي، وأسقيتها بدمائي، وأدفأتها بنبضاتي، وبذرتها بأبناء، هم الآن في أعلى المراتب والأماكن، لم يبق منهم إلا شاباً أوقظه كل صباح ليذهب لجامعته، عمره لم يتجاوز العشرين. بعد كل هذا العطاء، ومع كل هؤلاء الأغصان بين ابنٍ وابنه وأصهره وأرحام وأحفاد، يصدر حكمه وينفذه دون حتى مراعاة لمشاعري، لنظرة الناس لي، لحديث الشامتين، أو أعين الأصهرة الفضوليين، أو همهمة الأرحام القاسية، ونظرات الأبناء الحائرة التي تمزق سنوات حاضري كتقويم عامٍ يوشك على الانتهاء. سبعون ألفاً يرى أنها كافية لخدمة كل تلك الأعوام، يراها منصفه لكل ذاك العطاء، يجد فيها الغفران من الأمانة التي سلمها له أهلي الراحلون. مد لي يديه تحمل السبعين ألفاً، وهو قانعٌ أن ما فعله صواب، وبأني سأكون ممتنة له هذا العمل البطولي، بعد عشرة دامت أكثر من أربعين عاماً، أثمرت بثلاثة رجال، وخمس من النساء، وجد أنه لا يستطيع مع تقدم السن، وركبتاه التي لم تعد قادرة على حمله، أن يكتفي بامرأة واحدة بدل اثنتين، متعللاً أنه لا يريد ارتكاب ذنب بهجره لي، وأنه لن يتحمل الآخرة، وما وراءها من حساب وعقاب، فكر وقرر أن بيته الأول، وزوجته الأولى هي الأبقى، فبيته بمثابة المنارة كلٍ يلجأ له ويعرف طريقه، ومجلسه عامر دوماً، وزوجته هي الأساس، هي التي لم يبق لها غصن وإلا أمتد، وفرغ البيت إلا منه ومنها، فأصبح يتكأ عليها وتتكئ عليه، وأنا رمى لي ثمن كل تلك السنوات بسبعين ألفاً، فكانت مكافأته لمن ارتضت منذ أربعين عاماً أن تكون زوجة ثانية، وأم لأبنائه، وبيت ثانٍ، أن أدفأ من برد الشيخوخة الذي يطرق بابي كل يوم بأوراق كثيرة زرقاء يتوسطها مؤسس هذه البلاد. [email protected] قاصة سعودية