لم يكن الكاتب المسرحي البرازيلي باولو كويلو في روايته «الخيميائي» عبقرياً بقدر ما كان مثقفاً كثيرَ اطلاعٍ، فروايته هذه التي طارت إلى الآفاق، وتَقَبلها الناس في شتى الأصقاع بقَبُول حَسَن قَلَّ من غيرها من حاز ناصية شُهرتها، إنما كانت عملاً ثقافياً مُوظَّفاً أكثر منها عبقرياً خالصاً. فالرواية التي يَعُدونها من عظيم ما كُتب في غُرة ثمانينيات القرن العشرين، قامت على استلهام تراثي مَرَده إلى التراث العربي الإسلامي، فالقارئ لها -إن تحقق له إلمام بتراث الأمة- سيفطن إلى قصة «يَحْلُم لغيره» المَذْكورة في كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي المولود سنة 327 هجرية والمتوفى سنة 384 هجرية، وتحكي قصة شاب بغدادي خرج منها إلى الكوفة التماساً لكنز رآه فيها في أثناء نومه، فلما جَنَّ عليه فيها الليل قبض عليه أحد العَسَس؛ اشتباهاً بأمره كغريب عن المدينة، فأخذ الشاب يَسْتعطفه ويَسْترحمه مفضياً إليه بمبعث خروجه، فضحك العسسي من قوله وضَرَبَه بالحُمق والعُتْه، وأزرى به تَجَشم السفر لحلم رآه، ثم أخبره –أي العسسي- أنه رأى فيما يرى النائم أنه وجد كنزاً في بغداد في مكان كذا وما فَعل فِعْله، فَأصغى إليه الشاب دَهِشاً لأن مَوضع كنز رؤيا العسسي إنما كان منزله الذي تركه، فقفل راجعاً من فوره إلى بغداد حيث منزله ليرى أن الكنز كان أقرب إليه من أي كنز آخر سافر لطلبه. ولعلك وقفتَ الآن على سبب جَعْلي باولو كويلو في التقديم مثقفاً على كونه كاتباً عبقرياً، ولَعَمري فليس هذا مما يُعاب به على كاتب، أو يؤخذ به عليه، إنْ كان على نحو ما ألزم به كويلو نفسه. وذلك أن المعاني ليست مِلْكية للفرد تستوجب على الناس من غيره الاستجازة في أخذها، وإنْ سبقتْ –أي المعاني- إلى ذهن أحد قبل أحد؛ لأنها في الجملة «مَنثورة على قارعة الطريق» كما يقول الجاحظ. فلئن كان السبق إلى الفكرة زَيْناً لصاحبها لا يَفُوق عليه أي زين آخر، فإن سوء الفهم ثم الطرح لها يُحيلانها شَيْناً يَلْحق عمل صاحبها؛ إذ القصدُ إلى الفكرة قبل غيرك لا يُقيدها عليك، وإنما الذي يُخلِّد عليك في الأُحدوثة هذا المعنى أو ذاك دون سواك هو عَقْلُ الفكرة ثم الذكاء في توظيفها، ألم تر كيف أن الله أزرى بحَمَلَة التوراة ممن لم يؤدوا حَقَّ حَمْلها، وجَعَلهم بمنزلة الحمارِ الحاملِ الأسفار من غير أن ينتفع بها، فلو كانت حيازة الأسفار فضيلة توقيفية لصاحبها، لفَضَلَ الحمار ذو الأسفار ذاك على كثير من العالَمين. على أنَّ ما أتى دانيال ديفو به عام 1719م في روايته الشهيرة «روبنسون كروزو» التي يَجْعلونها حجر الرحى لعصر الرواية البريطانية، ليس أبعد عملاً من السرقة البواح من قصة «حي بن يقظان» للفيلسوف العربي ابن طفيل الأندلسي المتوفى عام 1185م. ومُوجز قصة ابن طفيل –التي نَسَخَ الغرب على جِنْسها القَصَص الأشهر من نحو: «طرزان»، و»ماوكلي»، وقِس على شاكلتهما ما يَشترك معهما في المنوال- أنَّ أُماً قذفت بابنها في اليم داخل تابوت؛ خشية أنْ يَذبحه أخوها الملك العَاضِل لها لتَزَوُّجها من قريبه «يقظان» سراً، فألقى اليمُ بالوليد بساحل أجمة، لتفتح القصة بعد ذلك الباب لأول مرة على ضَرْب فلسفي في السرد القَصَصي، يُضاهئ أكبر مدارس علم النفس الحديث من طريق الكشف عن حديث النفس والضمير والعقل لإنسان ما وَجد مُعِيناً له غير فطرة الله التي فَطَرَ الناسَ عليها، ليَسْتهدي بها إلى الإجابة عن التساؤلات عما حوله، وليستنبط منها ماهية المَحْسوسات والجمادات في مكانه المُوحِش الذي ألفى فيه نفسه ولم يعرف سِوَاه عالَماً، إلى أن قادته إلى أجلى حقيقة عرفتها الإنسانية من مَبدئها وإلى مُنتهاها؛ وهي وجود الله الخالق المُعلِّم، في سَبْك عفو المنطق يُؤدِّي بعضه إلى بعض. وتالله إنَّ الأدب الروسي في كَثيرِ مَذاهبه النفسية في الرواية –لكونه الأشهر براعة في التحليل النفسي لشخوص الرواية- لَهو عَالةٌ على ابن طفيل في قصته هذه (حي بن يقظان) وحدها، فأيُّ يد هذه التي استضاء بها أدب الغرب اليوم! ولقد كان صنيع دانتي أليغييري -المتوفى في عام 1321م- في «الكوميديا الإلهية» التي يعدونها مَفْخرة الملحمات الشعرية في الأدب الإيطالي، سرقة عَيَاناً أيضاً؛ إذ إنَّ مَلْحمته المزعومة هذه لا تعدو أن تكون استنساخاً ل«رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري. ومن يُقْبل على «رسالة الغفران» يَعْرف لِمَ اختُصتْ بالسرقة دون غيرها؛ فقد صَادفت لها فضيلتان: فضيلة كون أبي العلاء صاحبها وهو مَنْ هو في أئمة العربية، وحَسْبُك أن تعرف أنه أحد قليلٍ ممن أجاد النثر والشعر بالاقتدار نفسه في البراعة فيهما، فإنما النثرُ ضَرَّة الشعر؛ وبذا قَلَّ أنْ تجتمع للمرء الإجادةُ نفسها فيهما بالقدر نفسه فيكون نثره مُكافئاً شعرَه في البراعة. فضيلة المكتوب؛ حيث إن رسالته مَلَكت السَّبق في نمطها الفريد، وعَزَّت في انقطاع نظيرها بالاستطراد الخيالي لجَنَّة الشعراء والأدباء في الآخرة التي تَخَيَّلها المعري ببصيرته، وساق فيها حوارات ونقاشات بين بُلغاء العربية في الجنة. ومُنتهى القول والغاية التي أردتُك بها أمران؛ الأول: أنْ تعلم أن لك تراثاً عظيماً، عَرَف دونك الغربُ له قَدْرَه فتَعَاطَوه بالتحليل والدَّرْس والتوظيف على ما في اختلاف اللِّسان من مَشَقة عليهم، والثاني: أن تراثك يُسرق كما تسرق أرضك، فإنْ أنت فَرَّطتَ في الأول مُختاراً، فقد فَرَّطتَ في الثاني مَسلوب الاختيار.