نظرت إلى خارطة الكرة الأرضية فرأيت في المشهد الجغرافي عجباً.. دولة واحدة هي روسيا تحتل مساحتها ما يعادل السبعة عشر ضعفاً من مساحة مصر، ولو توحدت كل البلدان العربية في دولة واحدة لظلت مساحتها أصغر من مساحة روسيا، تداعت إلى ذاكرتي حينها الكيانات الكبرى المؤثرة في السياسة الدولية مثل الولاياتالمتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، فعلمت أنه لا مستقبل للكيانات الضعيفة، وأن العالم يتجه نحو مزيد من التكتلات والاتحادات، وأن من يبحث عن دور مؤثر في العالم فإن عليه أن يتجه نحو التوحد والاندماج. على النقيض من هذا التوجه العالمي يسود الفكر الانفصالي ثقافتنا العربية والإسلامية، والانفصال يبدأ في العقل ثم يترجم نفسه في حدود جغرافية، في الهند انفصل المسلمون عن الهندوس وأنشؤوا دولة باكستان، والشيشان لا تزال تناضل للانفصال عن روسيا، وجنوب السودان انفصل عن الدولة الأم، وفي مالي وسوريا والعراق وليبيا وربما مصر هناك من يغذي في اتجاه الانفصال، والأسوأ من الانفصال هو تبرير الانفصال وفلسفته فتجد من يقول إن إقامة دولة مستقلة يحكمها النظام الذي أؤمن به ولو كانت في حيز جغرافي ضيق أحب إلي من دولة كبرى ينافسني فيها الآخرون، كيف تسلل هذا الفكر إلى ثقافتنا، ولماذا نسعى إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ بينما الأمم الأخرى تتجاوز كل تناقضاتها العرقية والدينية وتتوحد في كيانات جامعة. الاستقلال فكرة براقة يغري بها بحث الإنسان عن التمايز، والعيش في مجتمع نقي بلون واحد لا يعكر صفاؤه اختلاف، لكن بريق هذه الفكرة يخفي وراءه الكثير من المعضلات، فالنقاء هو فكرة عنصرية تتعارض مع حقيقة الإنسان الذي لا يمكن قولبته وحصره، لذا فإن المجتمع الذي ينفصل مرةً يميل إلى انفصالات متعددة بعد ذلك، إن لم يكن جغرافياً فعلى الصعيد النفسي، لأن الفكر الانفصالي يظل موجوداً وهو أنه لا يطيق أن يعيش مع الآخر المختلف، فالوصول إلى حالة النقاء المتوهمة ليس نهاية المطاف إنما يواصل المجتمع ديناميته فيبرز فيه الاختلاف والتعدد من جديد فيتوهم الحاجة إلى تطهير جديد!! إقامة الكيانات المستقلة هو الفخ الذي يقع فيه أصحاب المبادئ فتقتل مبادؤهم من حيث يظنون أنها ستقوى وتنتصر، لأن إقامة هذه الكيانات يحصر الدعوة في حدود معلومة ويحول بينها وبين الانتشار الطبيعي بين الناس، ويخلق حول الفكرة شرنقةً عازلةً عن المجتمع، فبدل أن ينتمي إليها الإنسان بسهولة كونها دعوةً روحيةً فإن الانتماء إليها يصير اصطفافاً سياسياً وتدخل الدعوة في حالة استنزاف سياسي ويتلوث نقاؤها الروحي فينفض الناس من حولها.. إن الدعوة في أجواء الوحدة هي أكثر جدوى من الدعوة في أجواء الانقسام.. ففي أجواء الوحدة تستطيع أن تبث روح الدعوة بسيولة وانسيابية داخل المجتمع حتى يتحول المجتمع تدريجياً إلى الأفكار التي تدعو إليها أما حين يحدث الانقسام والفرز الطائفي والمذهبي والسياسي فإن حواجز نفسيةً تقام بين الناس فتمنعهم من الإيمان بالحق وتتشوه صورة الدعوة المشرقة لأنه مهما كانت مبادؤها سامية فإن الانتماء إليها في أجواء الانقسام والفرز سينظر إليه بأنه عمل سياسي وليس تلبيةً لحاجة روحية.