مع مرور عام جديد على نكبة فلسطين تمضي القلوب نحو مجهول آخر، ولكننا نعرف تمام المعرفة أن زيادة عام على الغربة يعني ان عاما اقترب من العودة. فالذاكرة الفلسطينية التي تعرضت للكثير من التشويه والتلفيق والتحريف والتزوير، حتى من اقرب الناس لها، ما تزال تحتفظ بجذور حية قادرة على النمو والانتقال من جيل الى جيل. خمسة وستون عاما مضت على النكبة لكنها بالنسبة لشيخ أمضى قليلا من صباه لحظات معدودة، بعد ان اعتاد ان يحكي ملامح قريته التي هَجَرها قصرا لأحفاده يوما بيوم وساعة بساعة بل لحظة بأخرى، ففي عقيدة هذا الجيل يوم واحد أطول من أعوام دون وطن. الغريب في أمر هذا الجيل الذي عايش النكبة، وكان شاهداً على التاريخ يتذكر تلك سنوات القلائل التي عاشها في قريته الفلسطينية أضعاف ما يتحدث عن السنوات التي أمضاها خارج القرية رغم عوارض الزمن وتقلبات الدهر وربما الحصار المفروض. هذا الجيل الذي توشك الذاكرة الفلسطينية ان تفقده كان ناقلا امينا لأحداث النكبة، ومؤرخا دقيقا لتفاصيل السنوات القلائل التي أمضوها في قراهم المنكوبة. فقد عنت لهم تلك السنوات القليلة عمرا كاملا من الأشواق التي طمست حيناً، وكظمت حينا آخر، لكنها لم تنطفئ لأن الجمرة في عمق الذاكرة، ومدقوق على نواصي القلب، محفور بين تجاعيد الوجوه التي حملت ذل الغربة وهموم التنقل. وللذاكرة الفلسطينية الكثير من المحطات التي تلت النكبة، وحتى تلك التي سبقتها، وجميعها حفرت في صدورهم أخاديد من المواقف والاتجاهات والاراء، ورغم ان أعذب ما فيها علقم مرير، الا ان هذا الذاكرة تروى بحنين المشتاق وامل العائد وإصرار المتيقن من العودة. ولكن هل انتقلت هذه القوة وهذا الرسم الواضح الذي سعى جيل النكبة لنقله بأمانة الى الاجيال اللاحقة؟ هذا السؤال أجابت عنه طفلة في عمر الزهور عندما رسمت علما فلسطينيا على دفتر التاريخ، وخارطة لفلسطين كاملة غير منقوصة، وعندما قالت لزميلتها إنها من هناك وستعود الى هناك، رغم انها لم تعرف من « قريتها» الا تلك الصورة التي رسمها لها جدها الشيخ، فوصفت لزميلتها القرية التي لم تراها الا من خلال جدها. ورغم استمرار متوالية التداعي والخذلان والتراجع والحصارات والحواجز والانحراف، لكن فلسطين التي بلغت من العمر خمسة وستين عاماً، باقية في الذاكرة ما بقيت الشمس تشرق، وما بقي القلم يكتب وما بقي العرق ينبض.