النظرة المادية البحتة للأمور, أوصلت الفيلسوف الأمريكي فرنسيس فوكوياما عام 1989م , إلى نظريته المتمثلة بأن انتصار الرأسمالية يعني نهاية التاريخ, وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يملكه, وبالتالي فإنّ فقدان الملكية الفردية يعني انعدام قيمة مالكها , وبناءً عليه فإن المجتمعات البشرية ستكون أمام أحد خيارين: إمّا أن تأكل , أو أن تؤكل. وإذا كانت المسافات قد تقاربت في عصرنا بفعل تقدم وسائل الاتصالات , فإنّ الجمع بين المواصفات القياسية للبشر والحيوان في عصرنا هذا , قد بات أمراً واقعاً وملموساً بعد أن سيطرت على البشرية القيم المادية البحتة , وأصبحت معها القيم الفاضلة والأخلاق الحميدة من الندرة بحيث أصبح معها حاملوها غرباء في مجتمعاتهم , لينطبق عليهم قول شاعرنا الحكيم وصاحب البصيرة النافذة أبو الطيب المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ولم تصل البشرية إلى التقدم والرخاء , بل صار التدهور الاقتصادي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي وتزايد الفروقات بين البشر , أهم ميزات العصر الرٍأسمالي الراهن , وباتت معها أسواق المال العالمية اليوم , أشد خطراً على الاستقرار العالمي من الأسلحة النووية ذاتها . إنّ مفهوم المال في حضارتنا وتراثنا يختلف عما هو عليه في الحضارة الكونية الحديثة , فهو عندنا موجود لخدمة البشر والمجتمع , فكل ثراء لا يزيد من فرص العمل مرفوض , وكل تكديس للثروات مرفوض , فالثروات في حضارتنا العريقة ليست سوى وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي غرضه تحسين مستوى معيشة الأمة والمجتمع ( فرادى وجماعات ) , إذا ما أنفقت في وجوه الخير , خلافاً لما هو عليه الحال في الحضارة الحديثة التي جعلت منها معبوداً يلهث وراءه , ويتقرب إليه , أصحاب النفوس الضعيفة والمهزوزة , ممن أعمت حمى الاستهلاك وتكديس الثروات بصيرتهم . المال في حضارتنا ليس بمقياس على علو منزلة الإنسان , فالمال إذا ما أخذ بغير حق أذل أعناق الرجال وغير المبادئ وأفسد الأمور , وقد أكد الاسلام على تجنب أكل أموال الناس بالباطل والتحايل ( ومن أساليبها الرشوة , وعمليات النصب والاحتيال , وأكل أموال اليتامى , وعدم إعطاء الأجير أجره ...وغيرها كثير ). مع التشديد وعدم التساهل حول ألاّ يدخل مال إلاّ من حلال. إنّ العودة إلى مناهل تراثنا وحضارتنا أمر لا بد منه للوقوف في وجه حضارة الانحلال الأخلاقي المستشرية . قديماً قالت العرب : ( عند جهينة الخبر اليقين ) وما عداه باطل الأباطيل وقبض الريح .